الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    حتى نلتقي - انطون بلوك

    السفر ما عاد كالماضي، كل شيء فيه أسرع، عندما تتهادى بك السيارة في هذه الحقول الخضراء وترى هدوء الناس على وجوههم، قد تصيبك الدهشة والحيرة للحظة لكنك تدرك أن هذا فيه كثير من الثقافة والنظام، رويدًا تقف السيارة أمام المبنى، يومًا كان حظيرة ابقار، والشاهد على ذلك هذه الأبقار التي تتجول خارج السياج السلكي، لقد تحولت الحظائر إلى مستشفىً يعالج فيه كبار السن، هنا يحفظون الكرامة لهم ويعطونهم أكثر ما يحتاجونه، هوايات أو حتى نشاط فكري أو جسدي ولو كان بسيطًا، مؤسسة لا تختلف عن نظيراتها في تقديم الخدمات التي لا يستطيع أحد الأزواج تقديمها، انتظرنا قليلًا حتى يسمح لنا بالدخول ما زلت في شوق لرؤية صديقي انطوان، مضت أربعة أعوام منذ زرته في المرة الأخيرة، كانت صحته نوعًا ما متردية سوى أن ذاكرته كانت رائعة، عدنا يومها في الذكريات، جولاتنا في امستردام، إلى كتبه وتجربته في صقلية، كان هولنديًا عاشقًا للايطالية ينهم منها معرفة، ووفاء لإيطاليا أسمى بناته بأسماء إيطالية، تخصص في علم حضارات الإنسان، الانتروبولوجيا ورأى كيف تمتد المافيا جذورًا ومأسسة في جنوب إيطاليا، حتى عاد من خير الخبراء في مجاله، تدرج في مراكز العلم حتى افضى رئيسًا لقسم الانتروبولوجيا في جامعة امستردام، والآن يقطن هذه المؤسسة، لا أدري إن كان سيذكرني! فمرض ألزهايمر قد أستولى على كثير من ذاكرته، بعد قليل سنشاهده وأرجو أن يكون في صحة جيدة.
    عندما دخلنا شقته المتواضعة كانت الإبتسامة تعلو شفتية، ترك مقود العكازة وفتح ذراعية مستقبلًا، وفي لحظة وجدتني أحضنه بين القوة والرفق فقد كان صديقًا لنا، زارنا مرات مع زوجته وأبنته، كان يحب أن يحدثني عن والدي، وكم ترك لديه أسئلة دون أجوبة، لا أدري أي شعور انتابني أهو الفرح أم الحزن؟
    فرح لأنه بصحة جيدة قياسًا لجيله المتقدم، وحزن وأنت ترى أنه ما عاد يتذكر أكثر التفاصيل، كان مكبًا كعادته على القراءة فبيته تغطي جدرانه كافة كتب بكل اللغات، مترجمة .
    تبادلنا الذكريات القليلة التي تذكرها وقد اضمحلت فعلًا وغادرنا المكان بعد أن ودعناه، إلى اللقاء انطون بلوك.
    ما أعجب هذا الزمن، ليس لأننا نمرض بل لأننا ننسى، أكثر ما يحزن المرء عادة ليس الفقد المادي ولكن الفقد الروحي، أن لا تتذكر لحظات جميلة في حياتك، في حياة أحباءك، هذا يحزنك جدًا ولا شك أنه يحزن من حولك، ولكن الجميل أن بعض الذكريات تبقى محفورة في العمق فلا تتأثر بالزهايمر أو غيره، السؤال هو كيف نتمكن من ذلك؟
    عندما عدنا إلى سوست هذه المدينة الوادعة مع سكانها الاربعون ألفًا بقي في مخيلتي كثير من الاسئلة حول نحن وهم وحول نحن ونحن، لماذا؟ لأن نحن وهم تعلمنا عن أنفسنا، سوى أن نحن ونحن نخاف أن ننظر إليها، لأننا نرى أنفسنا دون رتوش في مرآة كبيرة ترى أدق التفاصيل وتخفيها في نفس الوقت.
    أعتقد جازمًا أن عالم الذكريات مؤلم جدًا لكل شخص، ولذلك هناك نوعين الأول الشخصي والأخر العام، فألم الذكرى الشخصية ينتهي، أما العام فيبقى، خصوصًا في شرقنا حيث تعودنا وضع كل قدراتنا واخفاقاتنا في الحيز العام والأخير لا ينسى هناك من يدون كل خطوة ولحظة.
    وحتى نلتقي، انطون بلوك بخير، فكتبه ومؤلفاته سوف تبقيه في ذاكرة العلم رُغم أنه قد نسيَّ أنه ألف كثير منها، كم منا ستطوى صفحته وليس فيها سوى هرطقة وفتات جمل، وكم سيذكره الأهل والناس.





    [06-05-2022 01:32 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع