الرئيسية
مقالات واراء
4.0 *
د. عبدالله يوسف الزعبي
تميزت الحقبة التاريخية، الممتدة من فجر التاريخ وحين بنى السومريون أولى الحضارات الإنسانية وابتكروا الكتابة المسمارية، وحتى اختراع المطبعة وفتح القسطنطينية في منتصف القرن الخامس عشر، ببطيء ومحدودية التداخل الثقافي بين الحضارات والشعوب التي احتفظت بخصوصياتها الثقافية، وصلت درجة الانعزال في حالات كثيرة. يمكن وصف تلك الحالة الثقافية التي سادت العالم القديم بالثقافة 1.0، حين لعبت تكنولوجيات الكتابة، بكافة أشكالها المسمارية والهيروغليفية والأبجدية والمرورية وكتابات الانكا والازتك، الدور الأساسي في التطور الثقافي.
شهد العالم ثورة ثقافية ثانية، أو ثقافة 2.0، مع بزوغ عصر النهضة في أوروبا واختراع المطبعة وإنطلاق الثورة العلمية الكبرى، ودخول العالم عصر الصناعة إبان الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية وإنتهاءً بالحربين العالميتين. ساد العلم، في تلك الحقبة الثقافية، وتطورت الفلسفة وتوالت الاختراعات وبدأت الثقافات العالمية في الانفتاح والامتزاج والتلاقح والتأثير في بعضها بعضًا، وبقيت الثقافة الغربية تهيمن على المشهد الدولي في نطاق سيطرتها الجغرافية إبان فترة الإستعمار.
مع إنتهاء الحرب العالمية الثانية، شرع العالم في إعادة بناء نفسه، ولعب الترانسيستور، عندما اخترع عام 1947، دوراً محورياً في التطور التكنولوجي، وإبتكار وصناعة سلسلة عظيمة من الأجهزة والمعدات، التي ساهمت في تواصل الثقافات البشرية وانفتاحها بسهولة ويسر، ما أدى إلى إنتشار نمط ثالث جديد من الثقافة العالمية، يمكن تسميته ثقافة 3.0، سيطرت فيه تكنولوجيات الإتصالات والمعلومات والمواصلات، وبرز الإنترنت وألغت مواقع التواصل الإجتماعي كافة الحدود السياسية والثقافية، وتغيرت ملامح العالم كلياً في غضون نصف قرن، وأصبحت العولمة هي العنوان البارز والأداة الفاعلة في علو شأو الثقافة الغربية وإنتشار قيمها وسيادتها على العالم.
اليوم يقف العالم على مشارف الثورة الصناعية الرابعة، ومعها يدخل حيزاً جديداً من أطوار الثقافة، يصعب وصفه والتنبئ بماهيته وجوهره، تماماً مثلما يصعب توقع نتائجه وتداعياته وأثره على الإنسان والمجتمع والدولة والبشرية بأسرها.
ثمة أسئلة عميقة تطرح نفسها وتفرضها مجموعة من التكنولوجيات الناشئة التي تشكل الثورة الرابعة، حيث يثير الذكاء الاصطناعي جدلاً واسعاً ينقسم حوله العلماء والفلاسفة والمفكرين إلى فريقين، الأول مؤيد لفوائده العظيمة وثماره الجنية التي ستقطفها البشرية، والثاني معارض لشروره التي سيجلبها، ومنها القضاء على الوظائف وجلبه للمخاطر الفلسفية والعقائدية؛ وحيث مشروع الجينوم البشري وإحتمالات تحسين صحة الإنسان ومقاومة المرض أو ربما تغيير خلق الله، وغيرها من التكنولوجيات التي تنشر الفرح حيناً وتثير الفزع حول مستقبل البشرية بأكملها أحياناً أخرى.
المؤشرات الأولية توحي بأن الجدل سيستعر، في إطار الثقافة 4.0، بين إطروحة نهاية التاريخ والتطور الإجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان، وهيمنة الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية وأخلاقيات السوق الحرة في أنحاء العالم، ما يغلق الباب أمام الثقافات المغايرة للرأسمالية الغربية للصمود والاستمرار، والإطروحة المناقضة المتمثلة في حتمية صراع الحضارات الكبرى؛ الغربية واللاتينية والكونفوشية والبوذية والهندية والأرثوذكسية والأفريقية والعربية الإسلامية، الذي يتمحور حول الخلافات الثقافية والنزاعات الدينية.
تجد الثقافة العربية الإسلامية نفسها مرة أخرى أمام تحد خطير تفرضه ملامح الثقافة 4.0، التي بدأت تتشكل فعلاً وتفرز مجموعة من القضايا العقائدية والاجتماعية والسياسية، ما يتطلب عصفاً ذهنياً ومواجهة فكرية جادة تحول دون حيادها السلبية في مسرح الصراع العالمي، سواء في محاولة زجها في حلبة التصادم الحضاري أو إنتهائها في حضن نهاية التاريخ، وربما نهايتها واندثارها هي نفسها.
إن المرحلة التاريخية المقبلة ستحدد مصير الأمة العربية ووجودها، الذي يكمن في قدرتها على تحصين ذاتها والصمود في عهد الثقافة 4.0 التي تتصف بزحف تيارات عاتية من التغيير وأمواج هائلة من العولمة الجديدة أو العولمة 4.0.
* 4.0 تعني الثقافة في عصر الثورة الصناعية الرابعة



