الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    الوطن أكبر من مقال - احمد ذوقان الهنداوي

    اتابع بشغف، كما كثيرون من أبناء وطني، وبشكل دوري ما تكتبه الصحافة العالمية عن وطني الحبيب… نتابعها لا حبا بهذه الصحافة، بالرغم من جمهورها العريض ومصداقيتها العالمية، ولكن عشقا بوطننا الأعز والذي يتجذر هواه في القلب والنفس والروح ويجري فينا مجرى الدم في العروق … فالعديد منها يحتوي على المضمون السمين، مدحا أو نقدا بناء، والذي يمكن الرجوع إليه للإفادة منه في اقتراح كل ما يمكنه المساهمة في تعزيز عملية البناء والنماء الوطني. رغم ذلك، فإن بعضها الآخر يأتي غثا لا يستحق العناء… ومنها ما كان بين هذا وذاك… وبكل حال، يلاحظ للمتابع وبشكل جلي وواضح، اختلاف هذه المقالات في المضمون والشكل والمهنية والدافع والحافز لها، وتأثير الأحزاب والتوجهات الفكرية والسياسية الوطنية التي ينتمي إليها كاتبوها وناشروها على هكذا مضمون ودافع، وهو أمر متوقع ومصدر إضافي للتعلم والإفادة…

    انطلاقا من كل هذا، فإنه يلاحظ تركيز بعض المقالات في بعض الصحف الدولية في الآونة الأخيرة على تناول وتحليل عملية الانتخابات النيابية الأخيرة في المملكة وبشيء من التفصيل، مع ربطها بالحالة الوبائية والاقتصادية فيها. ركزت هذه الصحف على محاور عدة كان من أبرزها:

    أولا: تدهور الوضع الوبائي في المملكة خلال أشهر معدودة. فبعد أن كان الأردن مثالا يحتذى به للإدارة الحكومية الناجحة والمحكمة في إدارة الجائحة الصحية عند بدايتها (بالرغم من تحفظ البعض حينها على الإغلاق الكامل لشعورهم بعدم إمكانية استدامة هذا العلاج ونجاحه الشمولي على المدى البعيد)، أصبح يشار إليه الآن كأحد الدول الرئيسة والرائدة التي فقدت فيها السيطرة على الجائحة الصحية. ويتم الإستدلال على ذلك بالإرتفاع الهائل لإجمالي أعداد المصابين من حوالي الألف إصابة شهر تموز الماضي إلى أكثر من مائة وثمانين ألف حالة الآن، وارتفاع أعداد الوفيات نتيجة الجائحة من حوالي وفاة واحدة إلى سبعين وفاة يوميا في المعدل خلال نفس الفترة.

    ثانيا: وبناء على ذلك، ربط عملية إجراء الإنتخابات النيابية الأخيرة بتدهور الحالة الوبائية في المملكة، والتساؤل عن مدى حكمة إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها في ظل هكذا ظرف استثنائي، وعدم اعتماد الخيار الذي نادى بتأجيل الانتخابات لأشهر قليلة لحين إعادة السيطرة على انتشار الجائحة.

    ثالثا: إبراز مثالب قانون الإنتخاب الحالي والمبني على الدوائر الانتخابية الضيقة والقوائم النسبية المفتوحة، كون أن القانون بصياغته وتطبيقه الحالي يأتي محفزا ومشجعا للمال السياسي الأسود وعمليات شراء الأصوات بشكل واسع، ولا يمكن من إنجاح أكثر من مرشح واحد من الكتلة الواحدة في أفضل الأحوال إلا ما ندر، فيشجع بذلك على عدم المصداقية و”الخيانة” داخل الكتلة. إضافة لذلك، فإنه لا يمكن من انتخاب نواب على مستوى الوطن من خلال “قوائم وطن”، وبالتالي يأتي مطابقا لحد كبير في مضمونه، رغم اختلاف الشكل، لقانون “الصوت الواحد” السابق سيء الصيت، ويشجع على إفراز نواب خدمات مناطقية ضيقة وليس نواب وطن للتشريع والرقابة، وعليه لا يساهم في المحصلة في انتخاب الأصلح والأكفأ في خدمة الوطن والمواطن.

    رابعا: التركيز على تدهور الوضع الاقتصادي في الوطن من حيث ارتفاع نسب البطالة إلى أكثر من 23% وفق الأرقام الرسمية وأكثر منها بكثير وفق الأرقام غير الرسمية، وانكماش متوقع في الناتج المحلي الإجمالي عام 2020 بحوالي 5-7%، وعدم استدامة الإجراءات الحكومية في دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة والمواطنين من الطبقة الوسطى ومحدودي الدخل.

    خامسا: تشكيك بعض هذه الصحافة في نزاهة الانتخابات وإشارتها إلى تخلل العملية بعض الشوائب، وأبرزها عمليات شراء الأصوات على نطاق واسع وبأشكل ووسائل متعددة، وإلى احتمالية حدوث بعض التدخلات فيها من قبل بعض الجهات.

    وتخلص بعض هذه المقالات إلى أن الانتخابات كانت من منظورها “الأسوأ” في تاريخ المملكة وأن المجلس القادم سيكون من الأضعف بسبب فوز نواب المال السياسي والخدمات المناطقية الضيقة، بينما لم يحصل العديد من “الإصلاحيين الأقوياء” على مستوى الوطن على مقاعد فيه، إضافة لعدم فوز أية امرأة خارج الكوتا (15 مقعد) مقارنة مع خمس فاضلات فزن بانتخابات 2016 خارج الكوتا.

    رغم أن مضمون ومحتوى هكذا مقالات ملفت للإنتباه وجدير بالإطلاع والدراسة والتحليل، إلا أن ما هو ملفت بدرجة أكبر هو رد فعل النخبة السياسية الأردنية، “مؤيدين ” و”معارضين” (مع تحفظي الشخصي على هذه التوصيفات) عليها. فبينما يبالغ البعض ممن يمكن توصيفهم ب “المعارضة” بالتركيز عليها وتناولها وإبراز محتوياتها بكل تفصيلاتها، ما كان منها موضوعيا وصحيحا ودقيقا وما كان منها غير ذلك، وأحيانا بشيء من الشعور بالنشوة، وكأن لسان حال بعضهم يقول “ألم نقل لكم ذلك!”. وكأنما وجد البعض في هكذا مقالات صك اعتراف بحكمتهم وبعد نظرهم وصحة ما ينادون به وتعزيزا لموقفهم السياسي المعارض. يقابلهم على النقيض الآخر بعضا من “المؤيدين” الذين يتناولونها بشيء من التشنج ف “يستهجنون” اهتمام النخبة السياسية بكذا مقالات والتركيز عليها، من منطلق أن بعضها جاء غير ملتزم بالموضوعية والحيادية ومحتو على العديد من المغالطات، فبالتالي يفضل هكذا “مؤيدون” تسليط الضوء على التشكيك في مصداقية تلك الصحافة وغاياتها ودوافعها وتوقيت نشر هكذا مقالات، لا التركيز على محتوها ومضمونها.

    وبالرغم من تفهمي لطروحات الأطراف كافة وتقديري واحترامي لها جميعا، إلا أني لا أجد نفسي مؤيدا بالكامل لأي منها. فبالرغم من احتواء العديد من هذه المقالات على بعض الطروحات الصحيحة، إلا أن تحليلها لم يكن شموليا وافيا، وجاءت بطروحات وتوصيفات أخرى غير صحيحة وغير موضوعية ولا تعكس بدقة واقع الحال داخل الوطن، وبالتالي تدفع حتما للتشكيك بنواياها ودوافعها، ولا يجب أن ينظر لها بأي شكل من الأشكال بأنها كاملة الصحة والدقة وأنها تعزز من مصداقية مواقف سياسية محددة. بالرغم من ذلك، فإن التركيز على هذه المقالات وتناولها بالدراسة والتحليل هو أمر طبيعي، بل أنه واجب وطني، ولا يجب ان يكون “مستهجنا” ومنتقدا. فلا أحد يستطيع أن ينفي صحة كل ما يقال فيها. فالواجب إذا يحتم دراستها وتحليلها بشكل معمق بما يمكن من الإفادة منها في تعزيز الإيجابيات ومحاولة معالجة السلبيات، وبما يعزز ويقوي عملية النماء والبناء الوطني.

    الحكومة يجب أن ترتقي بأدائها وأن تخرج من حالة الذهول والصدمة والتردد التي تعيشها منذ أشهر، وأن تبادر فورا في اتخاذ الإجراءات الصحية والإقتصادية المبادرة والمتوازنة للحد من انتشار الجائحة والمحافظة على صحة المواطن واقتصاده ومعيشته أيضا، مهما كانت هذه القرارات صعبة على المدى القصير، وكما كان أداؤها المتميز والمحكم عند بدء الجائحة، وذلك لإعادة مسار الوطن إلى الطريق القويم الصحيح. فلا يمكن الإستمرار في تقبل هذا العدد الهائل من الإصابات والوفيات كل يوم، وكأنه أصبح أمرا عاديا وطبيعيا. وقد جاء توجيه جلالة الملك المعظم الأخير بجعل واعتماد مركز إدارة الأزمات الوطني كمرجعية أساس مسؤولة عن إدارة وتنسيق جهود كافة الجهات ذات العلاقة في مواجهة الجائحة، وتأكيده على ضرورة أن يعمل الجميع كفريق واحد دون النظر لتوترات نطاقات المسؤولية والصلاحية و”القوة”، مؤشرا قويا على عدم رضى جلالته عن أداء الحكومة والأجهزة المعنية في إدارة الجائحة بشكل عام، وعن مستوى التنسيق والتعاون بين هذه الجهات على وجه الخصوص، ودعوته للارتقاء بهذا الأداء والتعاون وبشكل فوري.

    وبشكل مواز، لا يمكن لأحد الإستمرار بقبول عدم استدامة اتخاذ كافة الإجراءات الاقتصادية الكفيلة بحماية الصناعات الصغيرة والمتوسطة والمواطنين ذوي الدخل المتوسط والمحدود، بما يمكنهم جميعا من الصمود بوجه الجائحة… هذا ويأتي قرار وتعميم البنك المركزي الأخير للبنوك الأردنية بتأجيل الأقساط المستحقة على الشركات المتضررة من الجائحة، دونما اعتبار ذلك إعادة هيكلة للتسهيلات الممنوحة، وإجراء إعادة جدولة لديون العملاء دون رسوم أو فوائد تأخير، خطوة جيدة تعزز من نهج وقرارات البنك المركزي الصحيحة المتخذة منذ بدء الجائحة، ولكنها ما زالت للأسف دون المستوى المأمول وغير كافية لتمكين معظم المؤسسات الاقتصادية الأردنية من مواجهة التحديات المصيرية التي تواجهها بكفاءة واقتدار.

    فالتصدي للجائحة الصحية وإنعاش الإقتصاد الوطني هي الأولويات الوطنية الإن، وعلى المدى المنظور، والتي لا تعلو عليها أولوية أخرى. ولكن بعد أن يخرج الوطن من محنته التي يعيشها حاليا، وسيخرج منها قريبا بإذن الله، فإنه لا بد من أن تبادر الحكومة في تفعيل منظومة التنمية السياسية الوطنية وبشكل شمولي، والتي يمكن أن تبدأ بدراسة ما تم خلال العملية الانتخابية الأخيرة، بإيجابياتها وسلبياتها، واتخاذ كافة الإجراءات لتعزيز الإيجابيات ومنع تكرار السلبيات التي تخللتها، كما تخللت الدورات الإنتخابية السابقة منذ عام 1993، والنظر بعين الجدية لتغيير قانون الانتخابات الحالي. قانون ينظر إليه كثيرون من أبناء الوطن على أنه يشكل أحد العوائق الرئيسة أمام تحقيق التنمية السياسية المنشودة، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تقبل إجراء انتخابات نيابية أخرى على أساسه. إستبدال هكذا قانون بقانون انتخابات عصري يشترك في إعداده وصياغته كافة شرائح المجتمع وكافة أطيافه السياسية من أقصاها لأقصاها. قانون حديث يمكن أن يوسع من النطاق الجغرافي للدوائر الانتخابية ويسمح بالقائمة الوطنية بنسبة محددة ويزيد من مقاعد الكوتا النسائية ويزيد من عدد أصوات كل ناخب، بما يسمح له بتقديم صوت لدائرته الإنتخابية وصوت للوطن، وبما يحد من ظاهرة المال السياسي الأسود ونواب الخدمات المناطقية الضيقة، فيسهم بالتالي في إفراز نواب وطن قادرين على تأدية مهامهم التشريعية والرقابية بكل كفاءة واقتدار وبما يلبي طموحات وآمال قائد الوطن وشعبه الطيب.

    تُخط بعض مقالات الصحافة العالمية حول الأردن بشكل غير محايد وغير موضوعي، ومفتقرة للدقة والصحة في العديد من أجزائها، ويأتي بعضها مدفوعا بالتوجهات السياسية والحزبية لكاتبيها أو الصحف التي تنشرها. رغم كل هذا، فإنه لا يجب أن تجابه هكذا مقالات بالتشنج وبمجرد التشكيك بمصداقية كاتبيها وناشريها، أو “يستهجن” عمل من يتناولها بالقراءة والدراسة والتحليل، فبالرغم من احتوائها على عدم الصحة والدقة في بعض أجزائها، إلا أنها تحوي أيضا ما هو صحيح ودقيق. وحتى ما كان منه غير موضوعي وغير دقيق، فإنه يمكن أن يمثل ويعكس آراء شريحة واسعة من المواطنين. وعليه فإنه يجب التعامل معها بما تستحقه من الدراسة والتحليل، والإفادة منها في اتخاذ الإجراءات الفورية الكفيلة بتصويب المسار في المجالات الصحية والإقتصادية والسياسية من ناحية، وتطوير الخطاب الإعلامي داخل الوطن وخارجه، وبما يعزز من مسيرة البناء والنماء في وطننا الأعز، ويمكن من تحقيق الرؤى والطموحات الملكية السامية بتحقيق الحياة الكريمة للمواطنين… فالوطن أكبر بكثير من مجرد مقال…

    حفظ الله الأردن عزيزا وقويا ومنيعا… وحماه شعبا وأرضا وقيادة…





    [24-11-2020 10:19 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع