الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    لماذا يهربون؟!

    تعجّ الصحف بإعلانات المدارس الخاصة عن الأوائل والمتميزين من طلبتها الذين حصلوا على علامات مرتفعة في امتحان "التوجيهي". وهي نسبة جيّدة ومتميزة على مستوى الوطن، تعكس نبوغاً مبكّراً حقيقياً، بخاصة بعدما تراجعت كثيراً، إلى المستويات الطبيعية التقليدية، ظاهرة الغش في الامتحان، ومع الحديث المتكرر عن صعوبة الأسئلة والتشدد فيها!
    الظاهرة الجديدة التي بدأنا نشهد التنافس فيها بين المدارس، تتمثّل في التعليم الدولي في الأردن، والذي نشترك فيه مع مدارس عالمية. ويجري الامتحان ضمن الشروط الدولية، وبأسئلة مصاغة من الخارج. وهنا نجد أيضاً علامات متفوقة ومتميزة، لدرجة أنّ بعض الطلبة (وفقاً لإعلان في صحفنا) أغلقوا العلامة تماماً (45/ 45)، وهو بالفعل أمر مدهش ويدعو إلى السرور والراحة.
    لكن (وما أثقلها هذه الـ"لكن"!) هذه النسبة المتميزة -التي نحتفل بها كل عام- لن تظهر في مرحلة مقبلة بصورة واضحة، لتشكل نخبة التطوير والتقدم والإبداع في المجتمع؛ بل ستختفي وتذوب في تعليم جامعي قاتل، أو ظروف مجتمعية قاسية وصعبة، تحبط وتثبّط من مستوى الإبداع والتميز. وحتى إن كان هناك من يحافظ على مساره المتفوق، ويصر على مقاومة الضغوط والعراقيل، فإنّ إبداعه سيبقى حالة فردية، لن نستفيد منها على صعيد عام، ولن تنعكس على تطعيم الدولة والمجتمع بطاقات جديدة تدفع بنا خطوات إلى الأمام.
    الظاهرة الجديدة اليوم تتمثّل ليس فقط في أنّ المبدعين والمتقدمين لا يجدون أنفسهم، معنوياً ومادياً، في وطنهم، ولا يفجّرون هذه الطاقات ضمن مؤسساتنا؛ وبالتالي نسمع عن إنجازاتهم المتميزة في أميركا والغرب، بل هناك تجريف كبير يحدث منذ أعوام، بصورة غير مسبوقة، حتى للصفين الثاني والثالث من المواهب المبدعة والطاقات المتميزة، ممن يسافرون أو يهربون إلى الخليج، ليبحثوا عن مؤسسات تستقطبهم وتستوعبهم، حتى لا يموتوا جوعاً أو قهراً في وطنهم!
    الميزة الأردنية عن باقي الأشقاء العرب، وربما هي في وجهها الآخر كارثة قاتلة، تتمثل في أنّ المغتربين الأردنيين هم من الشريحة المهنية المتخصصة. فهم ليسوا عمالاً يبحثون عن مهن بسيطة ورخيصة، بل طبقة من المتخصصين في مجالات فنية وأكاديمية وعملية محدّدة، ولن ينجحوا هناك إلاّ إذا كانوا يمتلكون المؤهلات الحقيقية للنجاح، ما يشمل حتى رجال الأعمال والمحامين والأطباء والمهندسين، وغيرهم ممن ينخرطون هناك في الأعمال الخاصة. إذ بدأت تنمو نسبة متزايدة من هذه النخبة الناجحة في دبي ومدن الخليج الأخرى، وتنقل أعمالها ونشاطاتها إلى هناك من الأردن، نظراً لتوافر ظروف إيجابية وبيئة أعمال أفضل وتعقيدات أقل!
    هذا يذكرنا بمؤتمر المغتربين الأخير، الذي كان أشبه بالفلكلور الوطني؛ إذ تعامل مع هذه الشريحة بدرجة كبيرة من السطحية والعشوائية، فلم نستطع أن نضع خريطة الفرص الاستثمارية، وخلق حوار مع نخبة من رجال الأعمال الأردنيين المبدعين في الخارج لجذب بعض استثماراتهم داخلياً، بل أمضينا المؤتمر في نقاش سياسي عقيم، لأنّنا ما نزال محكومين بمنطق الفزعة!
    في مقال جميل نشر في "الغد" قبل أيام قليلة، عرضت ماسة الدلقموني (متخصصة بالتعليم والثقافة) لأحد أهم الكتب الصادرة في الولايات المتحدة، هو "استثنائيون" (Outliers)؛ عن قصص النجاح والتميز لعدد من الأميركيين المبدعين، والعكس صحيح؛ أي المبدعين الذين لم يحالفهم النجاح والتفوق العملي. ليصل المؤلف مالكولم غلادويل إلى نتيجة مهمة، تتمثل في أنّ عامل الإبداع لا يكفي وحده، بل هو يحتاج إلى بيئة حاضنة وليس إلى بيئة طاردة منفّرة!
    قبل أعوام، طرح الصديق والزميل إبراهيم غرايبة سؤالاً مهماً عن الأوائل في "التوجيهي" خلال العقود الماضية: هل أجرينا دراسة لنكتشف أين أصبحوا اليوم؟! الطامّة الكبرى أنّنا ما نزال نتعامل بمنطق الإدارة التقليدية مع مجتمع يكبر ويتشعّب ويتعقّد، ويحتاج إلى إعادة بناء فلسفة جديدة في الإدارة العامة والهوية الاقتصادية والسياسية، وإلاّ فإنّ النتيجة ستكون خسارة كل المبدعين، إما لأنّهم يهربون أو يحبطون!





    [06-08-2015 12:04 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع