الرئيسية
مقالات واراء
د. هبة داود حماد
يشهد التعليم اليوم تحوّلاً غير مسبوق مع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهي أدوات لا يمكن تجاهل أثرها المتسارع على طريقة تعلّم الطلاب، وتصميم المناهج، وعمل المعلمين داخل الصف، وأمام هذا التطور السريع انقسم العالم التعليمي بين من يدعو إلى المنع الكامل خوفاً من الغش وضعف مهارات التفكير، وبين من يندفع نحو الاستخدام الواسع دون ضوابط واضحة، ووسط هذا الجدل يتشكل اتجاه عالمي ثالث يتبناه خبراء التعليم وصانعو السياسات: دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم، ولكن بشكل منظم ومسؤول ومبني على إطار واضح.
هذا الاتجاه لا يرى الذكاء الاصطناعي تهديداً، بل فرصة لإعادة بناء التعليم وإعادته إلى جوهره الحقيقي: تعلم أعمق، وتفاعل أكبر، ومهارات مستقبلية تتناسب مع عالم يتغير كل يوم، فالحظر لا يوقف تطور التكنولوجيا، ولا يمنع الطلاب من استخدامها خارج المدرسة، بل يخلق فجوة بين ما يتلقونه في المدرسة وما يواجهونه في العالم الحقيقي، في المقابل، فإن الدمج المنظم يمنح الطلاب القدرة على استخدام هذه الأدوات بذكاء، وفهم حدودها، وتطوير مهارات التفكير النقدي التي تمنعهم من الاعتماد الكلّي عليها.
ولعلّ أهم ما يدعم هذا التوجه هو حاجة المناهج الحديثة إلى التطوير المستمر، فالمحتوى التقليدي لم يعد كافياً في عصر أصبح فيه الطالب قادراً على الوصول إلى المعلومة بضغطة زر، وهنا يظهر دور الذكاء الاصطناعي في تحسين تصميم المناهج، وتخصيص التعلم لكل طالب وفق مستواه، وتوفير تغذية راجعة فورية تساعده على النمو المعرفي.
لا يهدف الدمج إلى استبدال المعلم، بل إلى دعمه وتحريره من الأعمال الروتينية حتى يتفرغ لدوره الأعمق المتمثل بــ: التوجيه، وبناء الشخصية، وتنمية التفكير، لكن هذا الدمج لا يمكن أن يتم بصورة عشوائية، فلا بد من ضوابط واضحة تحمي جودة التعلم ونزاهته، وتشمل هذه الضوابط: تعليم الطلاب قواعد الاستخدام المسؤول، تطوير سياسات مدرسية تحدد ما يجوز وما لا يجوز، تدريب المعلمين على الجاهزية الرقمية، ضمان حماية البيانات، وبناء ثقافة تعليمية تعتمد على الشفافية والتفكير النقدي، فبهذه الضوابط يتحول الذكاء الاصطناعي من خطر محتمل إلى قوة تعزز جودة التعلم وترفع مستوى المناهج.
إن دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم ليس ترفاً ولا خياراً ثانوياً، بل امتداد طبيعي لتطور المناهج وطريقة تعلم الأجيال الجديدة، حيث يتجه العالم نحو تعليم أكثر ذكاءً ومرونة، والمدارس التي ترفض التطور ستجد نفسها خارج السياق، فالخيارات اليوم واضحة: إما أن نلحق بركب التغيير ونقوده وفق معايير تضمن الجودة، أو نترك التكنولوجيا تتجاوزنا.
المستقبل ليس للتعليم الذي يقاوم الذكاء الاصطناعي، بل للتعليم الذي يفهمه، ويطوره، ويضع له القواعد التي تحمي الطلاب وتفتح أمامهم آفاق التعلم الحقيقي.



