الرئيسية
مقالات واراء
أحداث اليوم - حين تكتب الصحافة من مركز الضوء، فذلك أمر معتاد. لكن حين تُكتب الكلمة من محيط الحادثة، من منطقة تهتزّ أطرافها وتتماسك جبهتها، من شمال يلتقط ذبذبات الخطر قبل أن يُعلن عنها، تكون الكلمة أصدق، وأثقل، وأعمق أثرًا. أنا أكتب من هناك… من حيث وُلدت بعض خيوط المؤامرة، وقُطعت قبل أن تُستكمل.
بيان دائرة المخابرات العامة الأردنية لم يكن مجرد إفصاح أمني عن خلية عبثية. بل هو إعلان سيادي استباقي، صيغ بلغة محسوبة، ولهجة دقيقة، ومفردات تُقرأ ما بين السطور أكثر مما تُقرأ في السطور ذاتها. لقد أعلنت الدائرة، بوعي استخباري رفيع، عن تفكيك بنية تخريبية نائمة منذ 2021، مما يعني أننا أمام منظومة تتابع بصبر استراتيجي، لا تندفع، ولا تُخطئ التوقيت.
هل يدرك من يقرأ أن الحديث عن "صواريخ مصنّعة محليًا"، و"طائرات مسيّرة"، و"تدريبات داخلية وخارجية"، ليس تفصيلاً تقنيًا؟
بل إننا أمام مشهد حرب هجينة، تُدار على أطراف الدولة، بأساليب الجيل الرابع من الحروب، حرب لا تحتاج إلى جيوش، بل إلى أدوات عبث، وتكنولوجيا تقتل من دون ضجيج.
نعم، هذه ليست المرة الأولى التي نُحبط فيها مخططات، لكنها المرة التي تُحبط فيها شبكة مركبة، ممتدة، ومتعددة الوسائط، وهذا يُشير إلى نقطة فاصلة في العقيدة الأمنية الأردنية: أن التهديد لم يعد تقليديًا، بل ابتكر أدواته، ونحن ابتكرنا أدوات اجتثاثه.
أنا لا أكتب لأُجامل، ولا لأُسجل موقفًا للاستهلاك السريع، بل أكتب لأنني أعي أن الجغرافيا الأردنية اليوم ليست مجرد خريطة، بل بوابة عبور، ومنصة استهداف، وساحة اختبار دائمة. والدولة التي لا تملك أجهزة ظِلها، لن تصمد طويلًا في وجه الضوء المُر.
ودائرة المخابرات العامة، لم تعد فقط "جهاز أمن"، بل هي الآن عقل الدولة العميق، وخزان الذاكرة السيادية، وسياج الردع الذكي. هذه مؤسسة تعرف كيف تُراكم المعلومة، وتُقنّن الفعل، وتُعلن في الوقت الذي يكون فيه الإعلان جزءًا من الردع… لا قبله، ولا بعده.
الذين شككوا في صمت الدولة، عليهم أن يُدركوا أن الأمن لا يُصاغ بالشعارات، بل بالتحليل، وبناء السيناريوهات، وتحييد مصادر الخطر قبل أن تُولد.
نحن لا نتحدث عن 16 شخصًا تم اعتقالهم فحسب، بل عن 16 احتمالًا مُلغى، و16 سيناريو تم إحباطه، و16 مشروعًا كان يمكن أن يُغرقنا في العناوين السوداء.
أكتب كإعلامية، لكنني أُفكر بعقل وطن. أكتب كابنة لأردن يُراكم الفقد، لكنه لا يُفرّط في الثوابت.
ولن أخجل أن أقول: المخابرات العامة اليوم لم تُنجز ملفًا، بل أنقذت جغرافيا، وثبّتت معادلة الردع، وأثبتت أن "الصمت الأردني" ليس غيابًا… بل قرارًا.
كل من راهن على هشاشة الداخل، عليه أن يُعيد قراءة الحدث…
وكل من استرخص هيبة الدولة، فليتذكر أن "الظل الأردني" حين يُعلن، يربك حتى من لم يكن في الحسبان.



