الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    سلام على أرض الكرك


    تمتد أرض الكرك في المساحة الواقعة بين البحر الميت غرباً والصحراء شرقاً ووادي الموجب شمالاً ووادي الحسا جنوباً. وتحيط بهذين الواديين مرتفعات جبلية تكون شديدة الانحدار في بعض المناطق وقليلة في مناطق أخرى، أرضها خصبة . تمد يدها غرباً لتسلم على مدينة الخليل بفلسطين، وتطل بنظرها على وادي الموجب متصلة به عن طريق الملوك، وتسمع وأنت تقف فوق أرضها صوت جعفر الطيار، وزيد بن حارثة، وعبدالله بن رواحة ووقع سنابك خيولهم في مؤته.
    يرى بعض الباحثين أن اسمها العربي "الكرك" مشتق من الكلمة الآرامية "كاركا"، والتي تعني "البلدة المحصنة، المدينة"، بينما يرى آخرون أن كلمة "الكرك " مشتقة من أسماء أخرى مثل "كير" و "كير – حارسه". أما خلال العصور الهللنستية، والرومية، والبيزنطية فإن المدينة عرفت باسم كاراكمبا “Karakomba” والتي تعني "مدينة مؤآب المحصنة"
    أشارت قوائم المدن والمواقع المؤرخة لزمن الفرعون المصري تحتمس الثالث (حوالي 1490 – 1436 ق.م) إلى عدد من النشاطات المصرية المختلفة في منطقة جنوبي الأردن. ويرى العالم "ردفورد" أن عدداً من هذه المواقع يقع على خط سير حملات هذا الفرعون على بلاد الشام، والذي يمر بمنطقة مؤآب، ومنها موقع "الياروت" جنوبي وادي الموجب.
    كما يُذكر اسم "مؤآب" مرتين في قوائم الفرعون المصري رمسيس الثاني (حوالي 1290 ق.م). وفي إحدى هذه القوائم المرسومة على جدران معبد الكرنك في الأقصر ذكرٌ لمعسكر للفرعون رمسيس الثاني بجنوبي الأردن في حوالي 1270 ق.م. كما تشير النصوص إلى "أرض مؤآب" إلى جانب الاسم "مؤآب". ويرى علماء آخرون أنَّ "ذيبان" قد ذكرت في المصادر والوثائق المصرية المؤرخة للعصر البرونزي المتأخر (حوالي 155- 1200 قبل الميلاد).
    تواجد الناس على أرض الكرك قبل أكثر من مليون سنة، حيث تم التقاط مجموعة من الأدوات الصوانية التي استخدمها الانسان الصياد والجامع للقوت والمتنقل في مواقع متفرقة بمنطقتي وادي عربة في الغرب ووادي الحسا في الجنوب. وعلى الرغم من العثور على هذه الأدوات، إلاّ أنه وحتى الآن لم يعثر على هياكل عظمية للانسان الذي استخدمها، حتى الآن. بدأ الناس قبل حوالي 12000 ألف سنة يستقرون في مخيمات مؤقته وثابتة في مناطق معينة من أرض الكرك ، خاصة في منطقة ظهرة الذراع حيث توافرت وسائل العيش، بدلالة الكشف عن بيوت مستديرة الشكل تعود لهذه الفترة.
    تحول الناس في بلاد الشام قبل حوالي 10500 إلى الاستقرار الدائم ، فبنوا لهم قرى بالقرب من مصادر المياه الدائمة، سكنوها طيلة أيام السنة، وزرعوا الحبوب، ومن ثم دجنوا الحيوانات. ويظهر أن الناس الذين أسسوا هذه القرى هم من أحفاد أهل المخيمات في منطقة الذراع في غربي مدينة الكرك، حيث كشفت الحفريات في هذه المنطقة عن قرى سكنها الناس منذ تأسيسها في حوالي 8500 وحتى حوالي 4000 قبل الميلاد. كما انتشر الناس في فترة لاحقة (في حوالي 6500 قبل الميلاد) فوق مناطق أخرى في أرض الكرك، خاصة منطقة وادي الموجب. ومن أفضل الأمثلة هو موقع "الصفيّه" الذي احتل مساحة قدرها 12 هكتاراً على سفح جبلي مطلٍ على وادي الموجب من جهته الشرقية.وقد كشفت الحفريات التي أجرتها جامعة مؤتة باشراف الأستاذ الدكتور حمزه المحاسنة النقاب عن عدد من الوحدات البنائية، تتكون الواحدة منها، في أغلب الأحيان، من غرفة كبيرة ترتبط بها غرف أصغر مساحة، جميعها ذات شكل منتظم، ولها مداخل وأبواب. وأما أرضياتها فمقصورة ومدهونة باللون الأحمر، وغطت القصارة في بعض الأحيان الوجه الداخلي للجدران. وعثر في هذا الموقع كذلك على عدد من المدافن والدمى البشرية والحيوانية وأجران الطحن والدق وأدوات الزينة وغيرها.
    لم ينقطع الناس عن السكنى وتأسيس القرى والمدن في أرض الكرك، إذ كشفت المسوحات الأثرية عن عدد من المواقع التي تؤرخ للعصر البرونزي القديم (حوالي 3500 – 2000 قبل الميلاد) في مناطق متعددة، نذكر منها "باب الذراع"، و"النميرة"، و"الصافي"، و"فيفا"، وخنزيرة" في السهول الواقعة إلى الشرق والجنوب الشرقي من البحر الميت، وبلدة "أدر" في منطقة المرتفعات الواقعة الى الشرق من مدينة الكرك الحالية. ويتميز موقع باب الذراع عن غيره من المواقع الأخرى باكتشاف مقبرة كبيرة جداً فيه، والتي ضمت قبوراً بأشكال مختلفة. وكشفت المسوحات الأثرية التي جرت عام 2021 في أرض الكرك عن وجود كسر فخارية في المنطقة المحيطة ببلدة السماكية من النوع المعروف بالفخار "المديني" والذي له امتداد في منطقة النقب في فلسطين وفي شمال غربي المملكة العربية السعودية.
    وحكم على مؤآب ملوك عظام، وتخلد مسلة الملك "ميشع" انتصاره ،في حوالي 850 قبل الميلادعلى "آحاب بن عمري" ملك "بيت عمري" في السامرة وتحرير بلاده ، وأنه أعاد بناء عاصمة ملكه "ذيبان"، وشقّ الطرق، وبنى الكثير من المباني والقنوات، وغيرها من الإنجازات.
    أما خلال القرن الثامن قبل الميلاد، فدانت السيطرة على معظم منطقة بلاد الشام للآشوريين، وأصبحت مؤآب كغيرها من الممالك الشامية تابعة لسيطرتهم. وهذا مثبت في النصوص الأشورية، إذ ذكرت هذه الوثائق أسماء الملوك المؤآبيين مثل: سلمانو ومؤآب وكموش – نداب وموسوري وكموش – عسا. فيذكر أحد النصوص الكتوبة على لوحة طينية عثر عليها في مدينة "نمرود" قائمة بأسماء مجموعة من الملوك الذين دفعوا الجزية للملك الآشوري "تجلات – بلاصر" بعد حملته على فلسطين في عام 734 ق.م، ومن بينهم الملك "سلمانو" ملك مؤآب. ويذكر نص آخر من زمن الملك سرجون الثاني (721 – 705 ق.م) مملكة مؤآب بالإضافة الى ممالك أخرى قامت بالثورة ضده، لكنه استطاع إخمادها، وتابعت مؤآب دفع الجزية للآشوريين. ويتكرر ذكر أسماء ملوك مؤآب في مناسبات أخرى من زمن الملكين الآشوريين سنحاريب (704 – 681 ق.م) وأسرحدون (680 – 669 ق.م). وتذكر نصوص أخرى من فترات لاحقة أن مؤآب بقيت موالية لآشور، لأن الأخيرة كانت تحميها من غزوات القبائل البدوية التي سكنت الصحراء، وربما يكونوا هم المعروفين بإسم "القادريين". وبعد السيطرة البابلية على مقاليد الحكم في بلاد الرافدين سنة 589 ق.م خضعت مؤآب كغيرها لحكمهم. لكن الأمر لم يدم طويلاً للبابليين، إذ انتصر عليهم الفرس في عام 536 قبل الميلاد، وهؤلاء استطاعوا السيطرة على مقاليد الأمور في جميع بلاد الشام، ولم نعرف عن مؤآب إلاّ القليل بعد هذا التاريخ.
    تعد اللهجة المؤآبية فرعًا من فروع اللهجات السامية الشمالية – الغربية، وأهمُّ نقشين مؤآبيين حتَّى الآن هما نقش ميشع الذي اكتشف في مدينة ذيبان في عام 1868، ونقش كيموشيتي الذي اكتشف في مدينة الكرك عام 1958. يضاف إلى ذلك عدد من الأختام وطبعات الأختام المؤآبية. وتحمل الكتابة الموجودة على هذه الأختام اسماء أشخاص وآلهة مؤآبية. يتمثل الفن المؤآبي بالمنحوتات الحجرية والأشكال المرسومة على بعض طبعات الأختام ومن أهم القطع الفنية المؤآبية محارب شيحان وحجر البالوع.
    لأرض الكرك وأهلها ألف سلام، تحية لأهل "الهيّة".





    [30-10-2022 12:04 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع