الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    هل هي فعلًا ثورة؟


    هو سؤال ملتبس، لأن السؤال لم يحدد عن أي ثورة نتكلم، فالثورات في التاريخ كثيرة، غير أنها جميعًا كانت محكومة باشتراطات، أهمها اللحظة التاريخية، والظرف الذاتي والموضوعي، لكن الأبرز هو المكان، فلم يحدث أن وقعت ثورة طاولت مساحة الكرة الأرضية برمتها.
    فثورة العبيد قبل الميلاد، التي قادها "سبارتاكس"، وقعت في الدولة الرومانية من دون باقي بقاع الأرض، والثورة الانجليزية وقعت في الجزيرة البريطانية بالقرن السابع عشر، والثورة الأمريكية وقعت أيضًا في أمريكا، والثورة الفرنسية في فرنسا، والثورة الروسية في روسيا، والثورة العربية الكبرى في المشرق العربي، والثورة الفلسطينية في فلسطين، وهكذا دواليك. وحتى الثورة الصناعية، فهي أيضًا محكومة بمكان محدد، هو بعض الدول الأوروبية.
    إذًا؛ نحن نتحدث عن ثورات، سواء نجحت أو لم تنجح، ما يجمعها جميعًا أنها وقعت في زمان ما، حتى لو طال هذا الزمن، كالثورة الفلسطينية الممتدة منذ قرن من الزمن، وأنها وقعت في حيز جغرافي محدد، حتى لو اتسع هذا الحيز، وانتشر تأثير الثورة إلى أماكن بعيدة أو قريبة، كالثورة الصناعية، على سبيل المثال، فآثارها، على أقل تقدير على مستوى التطور الاجتماعي، ما زالت، بعد أكثر من قرنين من وقوعها، محدودة في مناطق محددة على الكرة الأرضية.
    لكن، قبل هذا وذاك، ما هي الثورة؟
    ومتى نعتبر هذا الفعل الإنساني ثورة، والفعل الآخر مجرد حراك شعبي أو انتفاضة شعبية ...؟
    ما يهمنا في هذا السياق، هو سؤال اشتراط وقوع الثورة من عدم وقوعها، فمحدد أن يكون هذا الفعل الإنساني ثورة: 1: أن يحمل بذور تحولات اجتماعية عميقة في البنية الطبقية للمجتمع، فمثلًا، حينما قامت ثورة "23 يوليو" 1952 في مصر، فمع أن هذا الفعل بدأ انقلابًا عسكريًا، لكنه تحول إلى "ثورة" بعد أن أقر مجلس قيادة الثورة في شهر أيلول، أي بعد شهرين، قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث نقلة عميقة في بنية المجتمع المصري.
    2: المحدد الثاني؛ أن يتغير مالكو وسائل الانتاج، وعلاقاتها.
    3: وثالثًا؛ أن يتغير شكل اصطفافات الدولة، حيث وقعت الثورة.
    إضافة لمحددات أخرى، أقل أهمية.
    لكن؛ ما هي الثورة التي نحن بصددها، وطرحنا عنها السؤال في العنوان: هل هي فعلًا ثورة؟
    هي ثورة الفضاء الإلكتروني، فهذه الثورة غيرت كل شيء، ولعل حجم التحولات التي حملتها هذه الثورة خلال العقود الثلاثة الأخيرة يضاهي ما وقع من تحولات في التاريخ الإنساني المعروف بعشرات المرات. وطبعًا؛ يمكن للباحثين المغرمين بقياس مديات التأثر والتأثير، وإخضاع التحولات لمعايير يمكن قياسها، أن يُعّْمِلوا الفكر، ويجتهدوا في هذا السياق، وبالتأكيد؛ فإنهم سيخلصون لنتائج مبهرة.
    ما يهمنا من كل ذلك، الإجابة عن السؤال: هل هي فعلًا ثورة؟
    نعم بالتأكيد هي ثورة، لكنها تختلف عن الثورات التي سبقتها، لجهة أنها ثورة أممية، فلا يوجد مكان أو إنسان على الكرة الأرضية بمنأى عن آثارها.
    وإليكم بعض ملامح هذه الثورة:
    1: شكل العلاقات الإنسانية تغير بعمق، ففي الفضاء الإلكتروني، قد تجد شخصين لا يربطهما أي رابط، أحدهما هندي يعمل فنيًا في مصنع سيارات، وآخر أردني يعمل أستاذًا جامعيًا، ويتفاعلان على الفضاء الإلكتروني، وتجمعهما اهتمامات مشتركة، لا يمكن أن تكون قد جمعتهما من دون هذا الفضاء الإلكتروني.
    2: شكل الطبقات الاجتماعية تغير بشكل عميق، فقد اختفت الطبقة الوسطى، أو أنها على وشك أن تنتهي، وظهرت طبقة جديدة، أطلق عليها المفكر الأردني د. هشام غصيب "البرلوتاريا الذهنية"، وهي طبقة العاملين في الفضاء الإلكتروني، فهؤلاء يحملون بعض صفات البرجوازية الصغيرة، لكنهم في الآن عينه يحملون بعض صفات الطبقة العاملة.
    3: شكل الاصطفافات السياسية في العالم تغير بشكل عميق، وإن ما زلنا نتحدث عن نظام اجتماعي واحد في معظم دول ومجتمعات العالم، وهو النظام الرأسمالي، لكن الفضاء الإلكتروني فرض تحالفات مختلفة، قد لا نستطيع فهمها بأدوات التحليل السابقة للثورة الإلكترونية، وفرض استقطابات حادة في الإطار الاجتماعي الواحد "الرأسمالية".
    ولعل ما أطلق عليه الباحث في شؤون المستقبل المفكر د.وليد عبدالحي "المنظور غير الصفري" يفسر كثيرًا من ظواهر عصر الإنترنت. فعبدالحي يقول إن المنظور الصفري الذي ظل سائدًا، يعني أن ما يكسبه هذا الطرف، يكون الطرف الآخر "الخصم" قد خسره، وبالتالي كانت مجمل العلاقات الدولية محكومة لهذا المنظور، لكنِّا نعيش اليوم، وفق عبدالحي، زمن "المنظور غير الصفري"، بمعنى أنك لا تستطيع أن تقول إن ما يكسبه هذا الطرف ليس بالضرورة ما يخسره الطرف الآخر – الخصم -، وخير مثال على ذلك: علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالصين، فهما تتصارعان على القمة الكونية، ويوجعان بعضهما بعضًا، لكن مصالحهما في الوقت نفسه تلتقيان، ما يعني أننا نعيش زمن: إدارة التناقضات والتقاطعات معًا.
    نعود إلى السؤال "محور الحديث": هل نحن بصدد ثورة حقيقية أم هي تحولات لم ترقى بعد إلى مستوى الثورة؟
    أنا أجزم أننا نعيش ثورة حقيقية، والشعوب والأمم، التي تتخلف عنها -مثلنا-، قد لا يكون لها مكان في عالم ما بعد ثورة الفضاء الإلكتروني.





    [12-07-2022 12:33 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع