الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    مرافىء غسان كنفاني


    غسان
    غسان علمنا حب القضية
    بيقولو نسينا
    وبحبك يا ما يا ما انكوينا
    لأكتب ع قلبي
    لأكتب ع ترابك
    فداكي
    فداكي
    فداكي روحي
    فداكي عينيا
    غسان علمنا حب القضية

    فمن أنت يا غسان حتى تعلمنا حب القضية؟
    هو ابن عكا، ذاب وجدًا بالمرافىء، ومات بغضًا بالصحراء، فها هو في "ما تبقى لكم" يفيء إلى المرفأ، والمرفأ هنا مريم – البطلة -، أو فلسطين التي تحمل من دون زواج - في إشارة إلى الاحتلال -، وتارة أخرى خيار المقاومة بوصفه مرفأ آخر، يلوح منه الوطن في الأفق من بعيد، لكن غسان، حينما أراد أن يتحدث عن الصحراء، بوصفها نقيض المرفأ، يختار زكريا النتن، الذي يتزوج مريم.
    فهل طرقت جدران الخزان يا غسان؟
    وفي عائد إلى حيفا، يفيء إلى مرفأ آخر، هو حيفا أم المرافىء، ومدينة الفُلك وهي تأتي من هناك، من فوق الموج، تمخر من هنا من تحت المطر. غسان القضية هنا يرسم بريشته نصًا أدبيًا، غير أنه يعيد قراءة تجربة شخصية عاشها في الوطن، عاشها يوم هاجر، وعاشها في الشتات، غسان الذي علمنا حب القضية، يقول لحيفا التي عاد إليها بطلا الرواية:
    الإنسان هو القضية، وفلسطين ليست فلوكلورًا نستعيده من الذاكرة، بل هي مستقبل نصنعه من الوجد والوجع.
    فما هي حكاية الخزان وجدرانه والطرق عليه؟
    غسان القضية هنا يسافر إلى الكويت للعمل، تهريبًا عبر البصر، أو هو "أبو قيس" بطل رواية رجال في الشمس، حينما يحشره هو ورفاق رحلته إلى الموت صائق الصهريج، داخل الخزان، ولمّا تأتي الحدود، لهيب الشمس والصهريج في الانتظار تقتل غسان القضية، أو أبا قيس بطل الرواية.
    فلماذا لم تطرق جدران الخزان يا أبا قيس؟
    صحيح أن السلطات ستسجنك، لكنها قطعًا لن تقتلك.
    فلماذا لم تطرق جدران الخزان يا غسان؟
    عكا مرفأ غسان الأول، فهي مدينته، حيث ولد في نيسان، وحيث ظلت تسكنه إلى أن اغتاله الموساد في بيروت قبل خمسين عامًا.
    غسان ظل يفيء إلى عكا، ويتذكر يوم نيساني، يوم هجمت عصابات الهاجاناة وشتيرن على المدينة، فحملت العائلة، كغيرها من عائلات المدينة، ما تبقى لها مما استطاعت أن تحمله، وإلى صيدا، حيث مرفأ آخر ينتظرك يا غسان.
    لكن قبل ذلك علينا أن نمر على مرفأ، ظل غسان يحمله داخل شغاف قلبه.
    فلماذا لم تطرق جدران الخزان قبل أن تترك يافا يا غسان؟
    يافا مرفأ غسان البديع، ففيه تفتحت عيناه على العالم، وفيه، أو في حي المنشية فيه، بدأ غسان حبوه الأول نحو الشاطىء. فيه أحب البرتقال، وفيه عشق البحر فلم يغادره، حتى وهو في دمشق، ظل برتقال يافا وبحرها يسكناه.
    فهل طرقت جدران الخزان في يافا يا غسان؟
    أم لأن أناملك كانت غضة لم تعرف أنك تقبع هناك داخل الخزان يا غسان؟
    صيدا مرفأ غسان الجديد، ففيه وجدت العائلة مكانًا تفيء إليه من وجع الهجرة والغربة، صحيح أن غسان لم يجد في صيدا ما افتقده في يافا، وذكريات تركتها العائلة في عكا، غير أنها تبقى مرفئًا يفيء إليه كلما عنّت على نفسه الاستلقاء في حضن الموج.
    دمشق التي انتقلت العائلة إليها، لم تكن مرفئًا، غير أن غسان رسمها في وجدانه مرفئًا، وفي هذا المرفأ البعيد عن البحر، بدأت مواهب غسان في اللغة العربية وآدابها تتفجر، فعمل في كتابة السيناريو، وعمل في صحف مختلفة، غير أنه التحق في الآن عينه بجامعة دمشق، حيث أنهى فيها دراسة الأدب العربي.
    فلماذا لم تطرق جدران الخزان مذ ذاك يا غسان؟
    في الكويت، حيث ارتحل للعمل، مرفأ غسان الجديد، غاص في تفاصيل الكتاب حد الجنون، فقد كان يقرأ ما لا يقل عن ستمئة صفحة كل يوم. في هذا المرفىء عمل محررًا في إحدى الصحف، وكان يكتب تعليقًا صحافيًا بتوقيع "أبو العز"، وفي الكويت كتب أولى قصصه القصيرة "القميص المسروق"، لكن، في هذا المرفأ بدأت تظهر عليه بوادر إصابته بالسكري.
    يبدو من وحي تجربته في هذا المرفأ استقى تفاصيل روايته "رجال في الشمس"، فلماذا لم تطرق جدران الخزان في الكويت يا غسان؟
    بيروت أحب المرافىء وآخرها، ففي عام الستين وصل بيروت للعمل محررًا في مجلة الحرية. في هذا المرفأ تفجرت مواهبه الكثيرة، من كتابة القصة إلى الرواية فإلى الدراسات والأبحاث، إلى المقال السياسي، وإلى الرسم، فقد كان غسان فنانًا تشكيليًا موهوبًا، غير أن طبيعة حياته والمخاطر التي ظلت تحيط به، حالت دون تألقه في هذا النوع من الفنون.
    قبل بيروت، كان قد التحق بصفوف حركة القوميين العرب، وما أن أعلنت الحركة، بعد نكسة حزيران، تحولها إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حتى وجد غسان مكانه رئيسًا لتحرير مجلة الهدف، ذراع الجبهة الإعلامي، فأدارها باقتدار.
    في بيروت التقى لأول مرة زوجة المستقبل الدنماركية آني، وفيها رزق بفايز وليلى، وفيها اشتبك مع تفاصيل العمل السياسي، وفيها أصبح المتحدث اللبق باسم الجبهة الشعبية. فيها عاش شظف العيش بين الفدائيين، لكنه سرعان ما كان يعود مثقفًا، يناقش ويتحدث ويقارع الحجة بالحجة.
    لأن غسان كان صادقًا وعميقًا، وأخذ قلمه يُغضِّب العدو، كان لا بد من قتله، وفي صبيحة يوم السبت الثامن من تموز قبل نصف قرن – عانم 1972 -، انفجرت عبوة ناسفة، زرعها الموساد في سيارته، فاستشهد على الفور، واستشهدت معه ابنة شقيقته الأحب إلى قلبه لميس.
    طوبى لك يا غسان، عشت ستة وثلاثين عامًا فقط، لكنها كانت كافية، لتنتج اثني عشر عملًا أدبيًا، وعشرات الكتب السياسية، ومئات المقالات، وترسم عشرات اللوحات، وتشتبك بوصفك مثقف عضوي مع أدق تفاصيل الحياة.
    طوبى لك أيها المرتحل الدائم بين المرافىء
    فلماذا لم تطرق جدران الخزان يا غسان؟
    أم طرقته ونحن لم نسمعك بعد يا غسان؟





    [07-07-2022 01:31 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع