الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    الحرب في أوكرانيا والصراع على الغاز



    لم يعد خافيًا على أحد أن ما يجري في أوكرانيا ليس إلا جزءًا يسيرًا من مشهدٍ أكثر اتساعًا، أو هو قمة جبل الثلج من حرب عالمية، تخوضها أمريكا بهدف إعادة تموضعها في العالم، لإدامة سيطرتها في هذا القرن، كما كانت خلال النصف الثاني من القرن الماضي.
    لكن؛ لماذا تتطلع أمريكا لإعادة التموضع ما دامت هي مسيطرة، وأدواتها الذاتية والدول التي تسيطر عليها تعمل بكفاءة؟
    للإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا أن نبحث في محددات التموضع الأمريكي الحالي، وشكل الاستدارة الأمريكية المتوقعة.
    استراتيجيًا ظل الشرق الأوسط في الخطط الأمريكية يحتل مرتبة متقدمة في سلم أولوياتها، لجهة أنها تمتلك أكبر مخزون من النفط في العالم، وبالتأكيد من يسيطر عليه يسيطر على العالم، لذا اعتمدت استراتيجية الهيمنة الأمريكية على العالم بعد الحرب العالمية الثانية على وضع يدها على منابع النفط في منطقة الشرق الأوسط، والسيطرة على خطوط النفط. غير أن هذه المعادلة أخذت تتراجع بعد ظهور الغاز كبديل للطاقة، أقل تكلفة وأثرًا على البيئة.
    وبالاطلاع على مناطق وجود الغاز في العالم، يمكن لنا توقع شكل حركة السياسة الأمريكية، فروسيا تحتل المركز الأول من حيث الاحتياطي من الغاز الطبيعي، بنسبة تتجاوز 24%، وإيران 18%، وقطر 14%، وتركمستان 9%، وهذا يعني أن ثلاث دول من الأكثر امتلاكًا لمخزون الغاز تقع في "أوراسيا" – قلب العالم -، هي روسيا وإيران وتركمنستان.
    ولمن يريد الاستزادة حول أهمية "أوراسيا" في السياسة الأمريكية، ودور أوكرانيا في هذا السياق، يمكن له العودة إلى المفكر الاستراتيجي الأمريكي "بريجنسكي"، الذي قال في كتابه رقعة الشطرنج: إن أوكرانيا تحتل مكانًا جديدًا وهامًا في رقعة الشطرنج الأوراسية، وبالتالي فهي دولة محورية جيوبوتيكية، لأن وجودها كدولة مستقلة يساعد على تحويل أو تغيير موقف روسيا. وهكذا، فإن روسيا من دون أوكرانيا لا تشكل إمبراطورية أوراسية.
    بينما يقول المفكر الإنجليزي "ماكيندر": من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على قلب العالم، ومن يحكمها يحكم جزيرة العالم "أوراسيا"، ومن يحكم جزيرة العالم يهيمن على العالم.

    مقابل ذلك يرى المفكر الاستراتيجي الروسي "ألكساندر دوجين" أن على روسيا الاتحادية العمل على إنشار إمبراطورية أوراسية تمتد إلى جبال الأورال شرقًا.
    إذًا نحن أمام صراع استراتيجيات للسيطرة على منطقة مهمة، وأكثر ما يخيف الغرب اليوم، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية أن تتمكن روسيا من تأسيس منظمة للدول المنتجة للغاز، تضم مبدئيًا روسيا وإيران والجزائر والعراق، وكازاخستان وأزبكستان، وتركمنستان، وهذا يعني أن هذا التحالف يسيطر على أكثر من 100 تريليون متر مكعب من الغاز، أي يمتلك أكثر من 50% من احتياطات العالم من الغاز.
    لكن، هل الصراع على الغاز، ومحاولات الدول الكبرى السيطرة على مناطق انتاجه، وعلى خطوط نقله، هو نوع جديد من الصراع، أم هو استمرار لصراع تاريخي للسيطرة على مناطق وجود المواد الأولية وخطوط نقلها؟
    من يقرأ التاريخ يكتشف ان المحرك الرئيس لحركته هو الاقتصاد، وخير مثال على ذلك، الحروب الكثيرة عبر التاريخ للسيطرة على مواقع وجود المواد الأولية، وخطوط نقلها، والأمثلة كثيرة، من أبرزها:
    1: اليشب؛ أو بالعربية اليشم، أو اليشمك، وهو من الأحجار الكريمة، وأغلى من الذهب وقد يكون هذا الحجر والحرير المحركان الرئيسان لأحداث ألفي عام على طول طريق الحرير من الصين إلى سورية.
    2: الملح؛ شهد التاريخ ظهور ممالك، وانتهاء أخرى، وصعود حضارات، وهبوط أخرى، بسبب الملح، بوصفه مادة أولية رئيسية.
    3: السكر؛ وحروب السكر، أو حروب السيطرة على مناطق زراعته معروفة في التاريخ.
    4: الذهب؛ المعدن اللامع، الذي أخذ بتلابيب الإنسان منذ أن اكتشفه قبل أكثر من ستة آلاف سنة، والتاريخ يزخر بحروب كثيرة مرتبطة بالذهب.
    6: الحديد؛ وهو من أبرز المعادن واكثرها استخدامًا، وللحديد عصران، العصر الحديدي الأول والعصر الحديدي الثاني، كما للبرونز، وحروب كثيرة مرتبطة بالحديد.
    6: الفحم الحجري؛ وهو صخر بني أو أسود قابل للاشتعال، لا أحد يستطيع تحديد متى اكتشفه الإنسان، لكنه أصبح مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر مصدر الطاقة الوحيد إلى أن أُكتشف النفط، وهو ما زال مصدرًا رئيسيًا في العديد من الدول الصناعية، والتقديرات تتحدث عن أن الكميات المكتشفه منه تكفي البشرية مئتي عام، غير أنه يعد أكبر منتج للغازات السامة، وبالتالي للتلوث، وحروب السيطرة على مناطق انتاجه تملىء كتب التاريخ.
    7: القهوة؛ أصبحت القهوة منذ ثلاثة قرون مادة تتناولها كل شعوب الأرض، ومن يريد الاستزادة عن تاريخ الصراع على مناطق زراعة القهوة، يمكنه العودة إلى تاريخ نقل ملايين الأفارقة للعمل في مزارع السكر والقهوة في أمريكا الوسطى والجنوبية.
    8: الأفيون؛ ولعل أكثر معركة مشهورة ارتبطت بالأفيون، هي حرب الأفيون التي حدثت بين بريطانيا وفرنسا من جهة والصين من جهة أخرى، حينما حاولت الصين الحد من زراعة الأفيون، غيرأن حجم الأرباح منه دفعت انجلترا، ولحقتها فرنسا إلى الهجوم على الصين. هذه الحرب استمرت سنوات، ومن نتائجها أن أصبحت هونج كونج مستعمرة بريطانية.
    9: القطن، وهو من أبرز المزروعات، ويدخل في صناعة كل الأقمشة، فمن دون القطن لا يوجد أقمشة، وقد حاولت بريطانيا عبر شركة الهند الشرقية في القرنين الثامن والتاسع عشر السيطرة على مناطق زراعة القطن، خاصة في الصين والهند.
    10: النفط، وهو المحرك الرئيس للحروب خلال قرن ونصف، فمنذ اكتشافه في أمريكا منتصف القرن التاسع عشر، وحتى اليوم شكل النفط محور الأحداث التاريخية، فأي حدث، مهما كان ضئيلًا ستجد للنفط علاقة ما به.
    هذه عشر مواد أولية شكلت المحرك الرئيس لحركة التاريخ على مدى خمسة آلاف سنة، لكن العامل المشترك بينها، أنها ظلت مطمعًا للدول الكبرى، فالسيطرة على مناطق وجودها، يمنح الدول قوة، ويمنحها مكانًا في دفتر التاريخ.
    ويظهر اليوم الغاز، كمادة أولية يتمركز الصراع الكوني عليه منذ عقدين، ولعل الحرب في سورية أو على سورية جزء من هذه المعركة، ومنها محاولات أمريكا مد خط لنقل الغاز القطري إلى أوروبا عبر سورية، وهو الذي جعل روسيا تتدخل في سورية لحسم الصراع لصالحها، لمنع قطر من تزويد أوروبا بالغاز.





    [29-05-2022 12:58 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع