الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    مظفر النواب واليافع

    أحداث اليوم -

    رئيس التحرير:محمد أبو عريضة

    مظفر النواب واليافع*
    المكان: وسط البلد – أمام أحد أكشاك بيع الكتب.
    الزمان: صيف عام 1978.
    الحدث: شاب يافع في السابعة عشرة من عمره، تجول عيناه الوجلتان في المكان باحثًا بين الكتب عن لا شيء، فلم تكن مهمته، التي كُلِّف بها شراء الكتب، ولا الاطلاع على العناوين الجديدة منها.
    يمسك كتاب "هؤلاء علموني" لسلامة موسى، يفتح صفحاته، يقلبها، غير أنه لا يقرأ حرفًا، فهو مشغول بشأن آخر، لا يعرف كيف السبيل لتحقيقه.
    يعيد "هؤلاء علموني" إلى مكانه، ويتناول كتاب "اللامنتمي" لـ "كولين ولسون"، يتصفح صفحاته، وقبل أن يعيده إلى مكانه، يحاول اليافع إدارة حوار مع البائع، فيسأله: كم سعره؟
    - بدينارين ونصف الدينار.
    - غالي. هل يوجد لديكم كتب لـ"كولين ولسون" أقل سعرًا، أو أحد دواوين مظفر الن ...؟
    اليافع لم يُكمل الاسم، هو يعرف أن مجرد ذكر اسم مظفر النواب، يعني لفت الأنظار إليه، ومن شأن الولوج أكثر إلى عالم الشاعر السري إثارة حفيظة االبائع.
    كان يتطلع لاختبار نوايا البائع، فقد قال له الرفاق إن بإمكانه شراء أحد أشرطة مظفر النواب من هذا الكشك. لكن المشكلة كانت تكمن في صغر سن اليافع، فكيف له أن يقنع البائع أنه شب عن الطوق، وأن بإمكانه شراء "الشريط" الممنوع من التداول والاستماع؟
    وأصل الحكاية أن هذا اليافع أنه كان حديث العهد بالعمل الحزبي السري، وبعد أن انتسب لأحد الأحزاب، سمع في أحد الاجتماعات اسم الشاعر الثوري مظفر النواب، وما زاد من شغفه بهذا الشاعر الهالة التي أضفاها عليه الرفيق القديم، حينما تحدث عن عالم هذا الشاعر الغامض، ونضالاته وسجنه وأشعاره الثورية، وألقى أمامهم في الاجتماع بعضًا من قصيدة "القدس":

    القدس عروس عروبتكم

    فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ؟؟

    ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها

    وسحبتم كل خناجركم

    وتنافحتم شرفا

    وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض

    فما أشرفكم

    أولاد "الق..." هل تسكت مغتصبة ؟
    البائع لاحظ ارتباك الشاب، فنظر إليه بعينين حانيتين، وأشار إليه بيده أن يتبعه، فاطمأن اليافع، ومشى خلف البائع، الذي دخل محلًا يقع قريبًا، وأخرج من أحد الأدراج شريطًا، وقدمه له قائلًا: دينار.
    حمل الشاب الشريط، وعاد مسرعًا إلى حيث يسكن، وأخذ يبحث عن مخبىء آمن يضع فيه الشريط، لكن المعضلة التي كانت تؤرقه أن أسرته لم تكن تمتلك "مسجلًا" ليسمع الفتى اليافع قصيدة "القدس".
    بعد أيام تمكن الشاب من حل المعضلة، فقد حمل الشريط معه إلى الاجتماع الحزبي التالي، بعد ان أبلغ الرفيق المسؤول أنه اشترى شريطًا لمظفر النواب.
    كان اجتماعًا حزبيًا سريًا استثنائيًا، فقد أحضر أحد الرفاق معه جهاز "تسجيل"؛ وبعد الديباجة المعهودة في كل الاجتماعات الحزبية، ألقم الرفيق شريط الشاعر الثوري مظفر النواب بفتحة "المسجل" وأخذ الرفاق يستمعون إلى كلمات القصيدة، لكن المفجأة كانت أن الشريط لم يكن يحتوي قصيدة "القدس"، غير أنه احتوى قصيدة أخرى جميلة باللهجة العراقية المحكية، هي قصيدة براءة على لسان الأم والأخت تخاطبان حزبيًا خان مبادءه:
    الأم
    يا بني ظلعك من رجيته
    لظلعي جبرته وبنيته
    واحسب الشيب اللي من عمرك جنيته
    يا بني طش العمى بعيني
    وجيتك بعين القلب أدبي على الدرب المشيته
    .......
    ......
    لحد ما موت بعز على السر الحويته
    ياعمد بيتي وكمر ليلي
    وربيع الشيب والعمر الجنيته
    جيت اهزك يا عمد بيتي
    يكون الدهر ظعظع عظم منك للخيانة
    وساومت جرحك على الخسة وخفيته
    يابني خلي الجرح ينظف
    خله يرعف
    خله ينزف
    يا بني الجرح اليرفض شداده
    علم الثوار يرفرف
    يابني لبن الجلب يرضع من حليبي
    ولا ابن يشمر لي خبزة من البراءة
    يابني ياكلني الجلب عظم ولحم
    وتموت عيني ولا دناءة
    يابني هاي ايام بفرزنها الكحط ايام محنة
    يا بني لا تلثم شرفنا
    يا بني يا وليدي البراءة تظل مدى الأيام عفنة
    تدري يابني بكل براءة
    كل شهيد من الشعب ينعاد دفنه
    وخلي ايدك على شيبي
    واحلف بطاهر حليبي
    كطرة كطره
    وبنظر عيني العميته
    * اليافع هو أنا. والقصة حقيقية مع بعض التعديلات لغايات النشر.





    [21-05-2022 09:48 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع