الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    من قطع الأكسجين؟

    سائد كراجة - الحكمة بأثر رجعي حكمة وهمية، هي نوع من التذاكي للهروب من الواقع، ولهذا فإن احترام الضحايا والناس الذين قضوا في كارثةِ مستشفى السلطِ، يقتضي حكمة بأثر مباشر تتطلب نظرةً فاحصةً وموضوعية، تضعُ نصبَ أعينها أن إكرام الضحايا أولاً وأخيراً يكون باتخاذ كل ما يلزم لعدم تكرار ما حصل. فما حصل هو حادث اهمال جسيم من شخص أو مجموعة أشخاص، والنيابة العامة ستأخذ المقصرين الى محاكمة عادلة لينالوا جزاءهم العادل وبهذا يمكن النظر لما حصل باعتباره إهمالا “شخصيا” يُعاقب من اقترفه حسب أحكام القانون، فهو حادث يمكن ان يقع في كل مكان او زمان .

    والصراحةُ أن الامور غير ذلك، فإن الوضع الإداري في القطاعِ العامِ عامة، والقطاع الطبي خاصة، يشير إلى أن حوادثَ مثل كارثةِ ضحايا مستشفى السلط قد تتكرر، يمكن ألا تتكرر مع الأكسجين آنيًا، ولكن يمكن أن تتكرر مع الديزل أو الدواء أو مولدات الكهرباء، حيث ثبتَ أن وزارةَ الصحةِ تعاني من نقصٍ كبير في الكوادر وخاصة الكوادر الطبية من أطباءٍ وممرضين وموظفين مساندين، كما تعاني من هدرٍ في المواردِ وغياب للرقابة والمحاسبة.

    هذا العوار الإداري لا تعالجه استقالة وزير، ولا محاكمة موظف أو مسؤولٍ – على أهميةِ ذلكَ من بابِ الضبطِ والربط – ، ولكن علاجه ببساطةٍ هو وجودُ نظامٍ إداريٍ واضحٍ مكتوبٍ يقومُ على توزيعِ المهامِ اساسه الكفاءة وليس المحسوبية. مصحوباً بإجراءاتِ رقابةٍ ومحاسبةٍ وثوابٍ وعقابٍ على أن تكونَ تلك الاجراءات عادلةً ونزيهة.

    هل الأمرُ محصورٌ بوزارةِ الصحةِ؟، للأسف لا، فإن العقمَ الإداري منتشر في أغلبِ مرافقِ القطاعِ العام، أقول أغلب لأن كلا منا لديه خبرة ولو يتيمة عن خدمات قطاع ٍعامٍ جيدةٍ، وقد نذكر في هذا الصدد دائرة الأراضي، وإدارة السير، وكثيرا من خدماتِ الدولةِ الإلكترونية، ولكن الأصلَ ألا تكونَ الخبراتُ الجيدةُ يتيمةً بل يجب أن تكونَ جميعُ الخدماتِ العامةِ بمستوى يليقُ بالمواطنِ، وبما يدفعهُ من الضرائبِ، وهنا يثور التساؤلُ، لماذا هذا الترهل وعدم الإنتاجية؟

    أسبابٌ كثيرةٌ أهمها أن الدولةَ بالغت عبرَ أكثرَ من خمسِ عقودٍ في التعيينِ في القطاعِ العامِ مقابل رواتبٍ ضئيلةٍ خاصةً في ضوءِ غلاء الاسعار فصارَ الموظفُ العامُ يشعرُ بعبثيةِ العملِ الوظيفيِ وضعفِ مردودهِ، ولكنه في نفسِ الوقتِ “محكومٌ به”، ولا ننسى هنا الكارثةِ الوطنيةِ المسماةِ نظامَ الخدمةِ المدنيةِ الذي يعتبرُ ملجأَ الموظفِ المهملِ، حيث إن الجزاءات فيه غيرُ ناجعة، وهو أيضاً مقبرةُ الموظفِ الجادِ الذي تقهرُ المحسوبيةُ والواسطةُ إخلاصهُ. هذا على المستوى الإجرائي، اما على المستوى الاستراتيجي فإن دورَ القطاعِ العامِ يحتاجُ إلى إعادةِ نظرٍ، وقد استمعتُ إلى رأيِ الوزيرِ الأسبقِ لتطويرِ القطاعِ العامِ ماهر مدادحة في هذا الشأن حيث يقول: إن دور القطاعِ العامِ يجب أن يكون في رقابةِ جودةِ الخدمةِ، ومنع الاحتكارِ، ووضعِ شروطٍ منافسةٍ لتقديمِ الخدمةِ للجمهورِ بأفضلِ الأسعارِ، وقد لا يحتاج القطاع العام ان يقدم دائما الخدمة مباشرة بل بأخذها من القطاع الخاص بعد ان يضع المعايير لمستوى الخدمة والسعر المناسب للجمهور.


    دعونا نتفق أن خدمات الصحةِ والتعليمِ والمواصلاتِ يجب أن تكونَ لجميعِ المواطنين بنفسِ الجودةِ، وأن تقدمَ مجاناً او بكلفةٍ مدعومةٍ في متناولِ المواطنِ العاديِ، شرط أن هذه المجانيةَ أو الأسعار المدعومة لا تغير من أن تكونَ الخدمةُ نفسها بمستوى محترم يليقُ بكرامةِ المواطنِ، وقامته كمواطنٍ بغض النظر عن أي اعتبار آخر، وعلى الصعيدِ الصحي فقد آن الأوان أن نسعى لتفعيل التأمين الشامل للمواطنين، بشرط أن تكون نوعيةُ الخدمةِ في بُعدها الطبي خدمة محترمة لا تقل في بعدها الطبي الأساسي عن خدماتِ القطاعِ الخاصِ أو أفضل منها.

    كارثةُ مستشفى السلط، وقبلها كارثةُ البحرِ الميتِ، تستوجبُ حلولاً في المفاصلِ الأساسيةِ للمشكلةِ، ولن تنفع “حلول عاجلة” آنية. وبعيداً عن التنظير في هذا الوقت الحزين، وكلنا في بيتِ عزاءِ أهلِ السلطِ، نعزي ونأخذ العزاء، نحذر من أن يقتصرَ العلاجُ على معاقبة بعض الموظفين قطعوا الأكسجين، فإن قطعَ الأوكسجين بدأ قبل ذلك بكثير، بدأ باستبدال الكفاءة بالواسطة وغياب الثوابِ قبل العقابِ، بدء بالإعراض المزمن عن مبدأ سيادة القانون وعن اجراءات الرقابة والمساءلة فإن من أمنَ العقابَ أهملَ “العملَ”، عسى أن تكونوا فاهمين علي جنابكم؟!!





    [17-03-2021 08:02 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع