الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    الناجون والناجيات

    كم هَرِموا.. أولئك الذين ولدوا عندما بدأ جسد فلسطين بالتآكل، حرباً ثمّ هزائم، وكانوا أطفالاً عندما أدركوا أن للحرب ثلاث نتائج: رابح دائم، وخاسر دائم، أو لاجئ سيعود قبل الحلم. كانوا أيضاً فتياناً عندما بدأ البكباشي عبد الناصر بتنظيف مسدسه قبل صيف الثورة، وتعلموا أول ما تعلموا في المدرسة أن طريق فلسطين الوحيد يمرّ من فوهة البندقية. كم هرم الذين مشوا أو تابعوا سير الماشين في غابات البنادق، فلا هم وصلوا، ولا هم يرجعون.
    كم هرم الفتى الذي كان واقفاً على شرفة مقهى الأوبرج، يلوّح بكف متوعدة كانت على ثقة أنها ستردع العدوان الثلاثي عن مصر، والشاب النحيل الذي ردد كلمات الجمهورية العربية المتحدة في سره وفي العلن ليقبض على الخيط الرقيق بين الحلم والعلم. كم هرمت الفتاة التي بكت ليلة العاشر من حزيران وظنت أن دموعها منعت عبد الناصر من التنحّي، والأطفال الذين تساءلوا في أرض الديار أو الحوش أو الغيط أو المارس، إن كانت النكسة حقاً تعني الهزيمة.. أم هي نصف نصر.
    الذي هرب في ليل شديد السواد من أبيه ليقاتل في حرب خاسرة، والذي فرّ في نهار واضح من مقص أبيه المعترض “مبدئياً” على سالفه الطويل الكث، التي لم تخجل من البوح أمام أمها بافتتانها بالولد المصري الجديد، أو العندليب الأبيض، المعروف لاحقاً باسم هاني شاكر، الذي سيسحب البساط برفق من تحت أقدام عبد الحليم حافظ، وتلك التي أرسلت بالبريد العادي رسالة جوابيّة على رسالة من تحت الماء لم تصلها من نزار قباني.. تعِبوا كما يتعبُ الحب.
    اشتعل الشيب في قلب الفتاة التي نجت من ثلاث مجازر متعددة النوايا في بيروت الغربيّة. تيبّست كفّ البغدادية التي أطلقت النار تجاه الهواء ابتهاجاً بتحرير الفاو. جفّ دمع اليمانية التي ما زال عليها أن توزّع الحبّ بالعدل بين عدن وصنعاء. كسرت الشمس ملامح امرأة في الغور، كانت طفلة شقية لما كان نهر الأردن غزيراً وصافياً وخالياً من الدنس. تجلس اليوم على شرفة في المَزّة شاميّة عاصرت ستّة انقلابات عسكرية، تسأل حفيدتها كم رقماً صار بعد البيان الأول.
    أضاع الرجل الثلاثيني الذي نجا من العدوان الثلاثيني على بغداد، نصف العمر الذي أصيب بشظية وذكرى. فقد الرجل الأربعيني الثقة بعلامة النصر بعد الذكرى الأربعين على حرب أكتوبر. تأكد الرجل الخمسيني الذي “هرم من أجل هذه اللحظة”، أنه بعد
    سنوات النكبة والنكسة، ليس هناك لحظة أخرى. يعاني الرجل الستيني كآبة لا موسم لها، شخّصها الأطباء بالحنين إلى الشعار المفقود “ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة”، ذلك الذي كتب عليه رئيس التحرير “غير صالح للنشر”!
    يا أيتها الناجيات من سرطان الثدي، يا من تغسلن علامات الزمن بالحنّاء كلما تقدم اليوم أيّاما. يا أيها الناجون من سرطان البروستات، يا من تترقبون أخبار الصفحة الأخيرة لمعرفة جدول الحياة بعد السبعين. يا أيتها المرأة التي تسأل بنتها عن موعد طائرة عبد الحليم القادمة من لندن، يا أيها الرجل الذي يسأل ابنه إن كان صدّام حسين ألقى الصاروخ رقم أربعين.. يا أيها الناجون والناجيات من الفيروسات المستجدة: هل أنتم بخير؟





    [11-12-2020 10:51 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع