الرئيسية
مقالات واراء
كتب: مصطفى صوالحه - بعد مرور شهرٍ على تخرجي بدرجة الماجستير في برنامج الإعلام الحديث من معهد الإعلام الأردني، وبعد حصولي على أكثر من مائة دورةٍ تدريبية من أعرق المؤسسات الصحافية عالميًا في وقتٍ كان فيه العديد من الأشخاص يمرحون ويرقصون على أوتار الواسطة والمحسوبية التي أنتجت لنا أغنية عنوانها ركاكة المشهد وسخافة العرض، وجدت أنني أمام العديد من الخيارات التي يُمكن أن يتجه لها أي صحافي واعد لديه العديد من الأفكار المُبتكرة والتي تحتاجها بالتأكيد مؤسساتنا الإعلامية التي ضُخت فيها العديد من الشخصيات التي عند تقييم أدائها لوجدنا أننا نستحق التواجد في أماكن عملها، لكنني وبعد اللجوء إلى تقديم الطلبات الوظيفية إلى المؤسسات التي تنشر حاجتها إلى صحافيين، أدركت أن العقلية التي تُدار فيها المؤسسات التي سُنحت لي فرصة الذهاب إليها وخوض غمار المقابلات لديها، عنيدة، بل إنها كانت تتعمد أن تزج بي في غياهب الاختبارات الي يمكن وصفها بكلمةٍ واحدة هي: مختلة.
يبدأ ذلك بالتدرّج المستفز لآلية الانتقال من مستوى إلى آخر، فالمقابلة التي تحاول فيها جاهدًا الاستحواذ على انتباه القائين عليها، تجد أنهم وبعد إبداء الإعجاب بك، ينتقلون بك إلى المستوى الآخر من المقابلة، والذي عادة ما يكون في يومٍ لاحق لها، ذلك بسبب عملية التقييم التي تخضع لها بالتأكيد، فالمقابلة التي كانت مدتها نصف ساعة ليست كافية لتقييمك، ويحتاجون لأسبوعٍ آخر حتى يضعونك إما على قائمة المرحلة المقبلة والتي ربما تتمثل باختبار عملي لا علاقة له بما جئت من أجله، أو قائمة العودة إلى كابوس إيصال السيرة الذاتية إلى المؤسسات، طبعًا، مع كل ما يحمله ذلك من نماذج لعملك كصحافي تنتظر مجرد فرصة، فرصة مُنصفة بحقك وبحق النقود التي التقطتها خجلًا من والدك بحجة التعليم والدراسة والدورات التدريبية، عندها يبدأ داء الخجل المفرط الذي ستتعمد في مراحله الأولية الابتعاد قليلًا عن جيب والدك، كل ذلك بسبب الوازع الأخلاقي الذي تمتلكه.
وحتى وصولك لمقر المؤسسة في الوقت المناسب سَيُلتهم من يومك ساعاتٍ خمس على أقل تقدير، موزعة ما بين رداءة الخدمات المقدمة في وسائل النقل العام وما بين انتظار دورك للقفز في فوهة المقابلة، ذلك حتمًا سيشعر به من يقطن في مدينةٍ تبعد عن مقر المؤسسة التي يطمح للعمل لديها ما يزيد عن 30 كيلومترًا، ربما ذلك بسبب سوء التخطيط والاعتماد على مدينة واحدة تحتضن المؤسسات بأنواعها وخدماتها!.
بعدها تدرك تمامًا أن سُلم الواسطة والمحسوبية أجدى نفعًا من سلم العلم والمحاولة والاجتهاد، كل ذلك في دولةٍ لا تُقدس المحاولات المتكررة، البكاء على جنبات الطرق، النقود التي تُستلف خجلًا، وأخيرًا، الأحلام البسيطة.
ربما لم يحن الوقت للدولة التي عمرها مائة عام احتواء تطلعات الشباب التي تتصارع دول العالم على رفدها، ربما لم يحن الوقت للدولة التي تعتمد دائمًا على خلق صورةٍ مشرقة لها في الخارج على إخراج صورة شعبها المشوهة من الظلمات إلى النور، ربما لم يحن الوقت للدولة التي تتبنى المشاريع الريادية الأولى في المنطقة بأسرها -على حد قول وتصريحات كادرها الحكومي- أن تنهض بمشاريع الشباب الذين يحاولون جاهدين البحث عن ملجأ.
إن كل ذلك ولّد ضغوطًا يمكن القول إنها رمت بنا في متاهة تعلم اللغات الجديدة التي بدأت ترهق الشباب، فالحاجة إلى تعلم لغة أخرى إلى جانب اللغة الأم أصبح مؤرقًا، كما أنه يدعو للتساؤل: في الوقت الذي وجدت فيه أنني مضطر للتحدث بأكثر من لغة بعد الفشل في إيجاد فرصة عملٍ في الدولة التي أقطن بها، هل يكون التباهي بتصدير الكفاءات للخارج شكلٌ من أشكال السذاجة؟..أقصد أنني خرجت هربًا من اليأس ولجأت إلى دولةٍ تحترم محاولاتي، السؤال الآخر يتعلق بمنظومة قطاع الإعلام في الأردن، فعندما يبدأ البعض بإسقاط الآراء وأنه لا يوجد إعلام حقيقي يمتلك مقومات الصحافة العليا والمسؤولية الأخلاقية والابتكار في الدولة، فعلى من تقع مسؤلية عمل الأشخاص في الميدان الإعلامي على أساس تقارب العلاقات وأحقية أبناء العائلة والأقارب عوضًا عن أحقية الاجتهاد والمثابرة؟..من المسؤول عن تشويه مهنة الأصالة؟..من المسؤول عن قتل شغفنا؟..من المسؤول عن هروبنا للخارج؟..من سيتحرك لمجرد القراءة؟.
أنعود للإنكار بأننا تعساء؟.. أنعود مجددًا للكتابة؟.



