الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    كأنّك إنسان قديم

    ما الذي سيغضبكَ بعد الآن، ويدفعك لقذف التلفاز بحذائك القديم. ما هو الانكسار الذي لم ينكسر بعد، ليرميك أمام مدخل الطوارئ قبل انفجار شريان في دماغك. ما الذي لم يسقط أمام عينيك، وكنتَ تظنُّ أنه أكثر رسوخاً من الحجارة الرومانية. ما الذي لم يُرَقْ أمامك، ويجعلك تتعرّق، وتنتحب، وتنزف، فها هي الكلمة التي كنتَ تعتقد أنها يمكن أن تحرق اللسان، صارت علكة بنكهة النعناع.
    لا تلعن هذا الزمان وما بعده من أزمان، وترميه بأوصاف قذعاء، فجدّكَ كان يشتم الأيام السوداء، وأبوك كان يهجو السنوات المنكوسة، فلا تكن حساساً، خفيف القلب، سريع البكاء. هنا يتكرّر التاريخ كلما كان هناك نقص في برامج التلفزيون، وهنا تستنسخ الخيانة كاملة من أسطوانة فونوغراف إلى روبوت ناطق، وهنا إن ارتُكِب الحرام مرة، صار مكروهاً، ثمّ مباحاً، إلى أن يصبح قراراً سيادياً.
    كن بليداً كأنكَ تشاهد فيلماً مكسيكياً بالترجمة الصينية، وبارداً كأنك مضطر لحضور مباراة تحديد المركز الثالث، ومحايداً مثل عازب يقرأ خبراً عن شجار زوجي. كن قليل الذكاء، أو خذه منه ما يكفي لأن تعرف خطر تجاوز اللون الأحمر، كن عديم الإحساس، أو خذ منه ما يكفي لمنع أنفك من الدخول فيما لا يعنيك. كن رجلاً مهزوزاً، لن يعرف مصلحته أكثر من الناطق الحكومي.
    جرائم الاغتصاب الجماعي ستشاهدها بجودة عالية إن فتحت هاتفك للبحث عن شقة للإيجار، مشاهد تقطيع الجثث أو حرقها ستصادفها في المحطة التالية بعد راديو وتلفزيون العرب، الشرح التفصيلي لواقعة الخيانة الزوجية تستمع إليه مع التعليق السياسي، حادثة عنف أسرية لعاطل عن العمل، ستقرؤها في الصفحة الاقتصادية بجانب خبر هروب رأس المال. إذاً حين تسمع أو تشاهد أو تقرأ شيئاً مثيراً للأعصاب، لا تغمض عينيك كأنكَ إنسان قديم.
    لا تخجل مهما ارتكبتَ من الحماقات، ولا تندم إلا على الذي لم تقترفه. لا تحتفظ بكثير من الذوق في دمك، وتخلّص بخفة من أشياء لا قيمة لها الآن وبعد الآن، أشياء في كلمات تنتهي غالباً بالتاء المربوطة. تخفف من كلّ ما يعيق تحولك إلى إنسان جديد بأزرار ملساء، ولا تفكر بعد ألف خطوة بالاستدراك، فلن تسترك عندها أوراق التوت، حتى سعف النخيل.. لن يغطيك.





    [02-09-2020 08:08 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع