الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    “صديق”

    أثاث شرقيّ ثقيل كان يحمله العمّالُ الحُمر من بنغال، ويفرغونه في الشقة التي يبدو أنّه قد كُسِر نحسها. 307، أي الشقة السابعة في الطابق الثالث من برج يُطلُّ على شاطئ بنصف أبّهة في الخليج العربي. أسكنُ أنا مهندس البترول، في الشقة 306، وحيداً، فلا زوجة دائمة لي، ولا أصدقاء خارج أيّام الدوري الإسبانيّ، أجلسُ كلّ الوقت مع الأجهزة السوداء، وأحياناً أمشي نحو باب الشقة، لا ضرورة لأنْ أنظر من العين السحرية، هذا بالتأكيد عامل توصيل البيتزا.. “اعتزاز” اسمه، ويناديني “صديق”، لكنّي في مرّة اقتسمتُ معه الرغيف المُغطّى بالخضار واللحم، وصنعتُ له شاياً مغربياً أعجبه، ثمّ صرتُ أناديه: “صديقي”.
    زوجان وطفلان من الأردن، هذه الأسرة التي سكنتْ الشقة 307. ابتهجتُ كأنّي في محطة قطار منسيّة مرّت بها عربة خيل. في مساء ما، صادفتُ الأب في الممرّ، عرّفته بنفسي: اسمي من أربعة مقاطع، القرية التي ولدتُ فيها، المحافظة التي جئتُ منها. نقيتُ كلامي من الإنجليزية العَمَلية، واستعدتُ لهجتي الريفيّة، لكنه لم يبد أيّ حركة لاحتضاني، دعوته لفنجان شاي بالنعناع البلديّ، فابتسم بدون أن تظهر أسنانه، ومدّ يده.. لأفسح له الطريق. في مساء آخر، رفعتُ صوت التلفزيون لأعلى درجة عند مشهد زفة مصرية، فربما استفزه الصوت، وجاء يؤنّبني، وندخل في عداء سطحيٍّ، ثم نصبح أصدقاء ما تبقى من العمر، وتناديني طفلته الشقراء “عمّو”، ويلجأ ابنه إلى بيتي ليشاهد مباراة في الدوري المحليّ، وتأخذ زوجته من مطبخي عُودَ قِرفة.
    لا صوت يأتي من الشقة 307، سألتُ موظّفَ الاستقبال، فأخبَرَني أنّ الأسرة الأردنية قد رحلتْ نحو جهة أكثر أبّهة من الشاطئ. استفسرتُ عن سبب الرحيل السريع، فأجابني أنّ الزوج يريد برجاً بلا عرب، وقال له بالإنجليزية مثلاً عربياً عن “الجار والدار”. لم يطل فراغ الشقة، فقد ملأها عُمّال من بنغال بأثاث شرقيّ. عائلة من الشّام، الزوج يبدو بشوشاً، صادفته في المصعد الكهربائي، وقلتُ له إن الجوّ حار، وفي بلادنا (خاطبته بود أخ غير شقيق)، الفصولُ تتعاقب بكامل طقوسها، وأردتُ أن أسترسل في الحديث وأذكّره بمدفأة الحطب والكستناء، لكنّ المصعد هبط، وتفهّم فيما يبدو حاجة الجار البشوش للهرب. في المساء، حفظتُ مجموعة من النكات الحمصية، وطرقتُ باب الشقة 307، وابتسمتُ عند مستوى العين السحرية عندما سمعتُ اقتراب الخطوات، ثمّ هدأتْ الأصوات تماماً من الداخل. عدتُ لشقتي بعدما فقدتُ كلّ أسباب الابتسام.
    “وطني يا وطن الشعب العربي” ورفعتُ صوت التلفزيون إلى أعلى درجة، ثمّ ذهبتُ إلى باب الشقة 307، لأدعو الجار المصريّ الأسمر إلى شاي ثقيل و”شيشة”، لكنه اعتذر، فهو لا يشربُ المنبّهات ليلاً، ولا يدخّن أي نوع من الدخان، وذكر قائمة قصيرة من الأمور التي تثير استياءه، آخرها طرق الأبواب بلا موعد. الرجل اليمني ارتاب بالودّ الزائد، والسوداني استأذن ولم يعد، والعراقي قطع فرصة التواصل حين اختار اللغة السويدية للحوار، أما المرأة التونسية فقد صدّتني بأدب رفيع، وأخبرتني أنّ فرق اللهجات سيقفُ عائقاً أمام التواصل بيننا، رغم أنّي لم أطلب أكثر من مصادفة أن نفتح بابَيْنا معاً، ونتبادل بالعربية أو بالفرنسية: “صباح الخير”.
    مضى وقت طويل على خلوّ الشقة 307، وغاب العُمّال من بنغال فترة لا بأس بها. وفي مساء قريب، رأيتُ زوجين من الفلبين، يتعاونان في حَمْل أثاث “ايكيا” الخفيف، ذهبتُ لمساعدتهما، ودعوتهما إلى عشاء طلبته من المطعم اللبنانيّ، وأعدَدْتُ لهما شاياً عراقياً بالهال، وأسمعتهما نكاتا حمصية وخليليّة، ورويت لهما أحداث فيلم مصري كان أمامنا على الشاشة، سألتني الزوجة إن كنتُ عربياً، أجبتها بحسم: أبداً، بالطبع لا، أنا جاركم أيضاً هناك، من جمهورية فيتنام الاشتراكية، وصديقي “اعتزاز”.





    [31-01-2020 08:18 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع