الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    رأيت الله في الترياق

    عبدالرحمن وهدان - نعم لقد رايت الله في رواية الترياق لكاتبها الروائي والمخرج السينمائي العالمي الدكتور محيي الدين قندور، فبروح المقاتل الثائر الأديغي والتي ترفرف في صفحات رواية الترياق، ينقلك قندور في روايته الى رؤية الله، حيث قدرته جل جلاله في كشف أجواء كان الطيران فيها محظورا، وما كان لنا يوما ما ان نعرفها، لقد هتك سترهم قندور وكان في روايته مناضلا ثائرا و وطنيا مخلصا.

    وانها – هذه الرواية - لو ترجمت على أرض الواقع كفلم لحصدت جوائز الأوسكارجميعها ولصارت أحسن فلم واقعي يريك الله جل جلاله من خلال معجزاته وقدرته ويحاكي الحق والضمير والانسانية.

    كنا نسمع كثيرا عن أحداث خالد مشعل مسؤول المكتب السياسي لحماس في عمان، والأغلب يتناقل الرواية حسب مصدره، وكلها كانت تكرر الحدث ولا تخرج عن نطاق ما هو متداول بين الدهماء من الناس، أما أن ندخل دهاليز الحكاية كما هي مصورة في هذه الرواية، فلعمري لقد كان هذا من ضرب المستحيل.

    يظهر من الرواية ان صاحبها وهو المعروف عنه بصمته الطويل أنه قد تم عقله تماما وهذه نعمة قلما أن تحدث لبشر، وهذا جلي من حبكة الرواية وشخوصها وأماكنها وكيف
    يجعلك قندور في وسط احداثها ويكأنك تشاهدها بأم عينيك.

    وكما هو معلوم أن من أبرز صفات الشعب الشركسي هو كثرة الصمت والاستماع وقلة الكلام بالمقارنه مع الاخرين و هذا واضح وضوح الشمس و يستطيع الواحد منا ملاحظته حين مجالستهم.

    فالصمت هو العلم الأصعب من علم الكلام و كما قال الامام علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه: "إذا تم العقل نقص الكلام"، وقال: "بكثرة الصمت تكون الهيبة".

    تلمس في الرواية تناغم وتعاطف روح شعب الأديغة مع كل المستضعفين والمهجرين والثائرين في الأرض، وحرصهم على نصرة الحق والإخلاص لمجتمعاتهم اينما حلو وكانوا، فلقد ذاقوا مرارة التهجير والتقتيل على أيدي أباطرة روسيا وبمؤامرة من العثمانيين، لتغذية جيوشهم بالمقاتلين الشركس الأشاوس.

    لقد غاص قندورفي تحليل المكان والشخوص وملامحهم وهيئاتهم ، وهام فيها بعمق وبدقة لتحليل عسكرية المستعمر وكشف هزالتها وضحالتها، لقد فاق مؤلفها كل من تحدث عنها لشموليته في سردها، حيث كان يتنقل فيها من تل أبيب – تل الربيع سابقا- الى عمان، ومنها الى واشنطن، ومنها الى الكويت، ومن ثم الى السجن حيث القطعه التي تؤوي الشيخ احمد ياسين ومعاوِنَيْهِ، والى سلواد وأحيائها والقدس، والبتراء الوردية ، والعمليات الانتحارية بنظر العدو والاسشهادية بنظرالاغلبيه، وشرح نفسيات الدبلوماسيين وأثر الدبلوماسية الناجحة في تغيير الواقع المرير.

    ولم تغب الصحافة والاعلام من قلم قندور في هذه الرواية حيث رنده حبيب وفن قالب الاخبار في تحريك الشعوب أو طمئنتها وكيف تتم صناعة الخبر، وكذلك سلطة الاعلام في التأثيرعلى أكثر مراكز الدولة حساسية، ولم تغب عن الرواية مديرية المخابرات العامة الاردنية وحنكتها في حفظ الامن والدفاع عن مبادىء الدولة، وكذلك أروقة الموساد كانت حاضرة بهزالتها وتخبطها، ولم تغب عن الرواية تفاصيل ما جرى في السفارة الاسرائيلية، وصحافة كندا و فرنسا ولا حتى تراجيديا المستشفى غابت عن الرواية، وكذلك عملية عنتيبي ومحاولة الصهاينة تطبيق أختهاعلى ارض الاردن.

    لقد رايت الله حين حدثت جلبة و ارتباك وخوف ومشاحنة وجدال بين مبعوث المخابرات وبين رجال مشعل فالمخابرات الاردنية تريد نقله الى مركز ملكي للعناية الخاصة به، ورجال مشعل مع أمه وزوجته ثائرون وخائفون ومتشككون من نقله، حتى أنهم جميعا غاصوا بالنحيب والحيرة والقلق، وفجأة يستفيق مشعل من غيبوبته العميقة جالسا والتي لا يمكن لها علميا أن تكون، فحسب التشخيص الطبي الرجل يحتضر ويموت ويصيح بصوته ليقطع الجدل " أماه، توقفي توقفي، عن التسبب في المشاكل !

    وها هنا رأيت الله !. فمن ذا الذي أيقظه من هذا الشلل المطبق ؟ لقد رايت الله في عنايته لجلالة الملك الحسين وكيف أن ذؤابة من الجدود قد حَنَتْ عليه طوال مسيرته، تحميه وتحرسه وترعاه فهيبته كانت في صمته مجلجله فكيف لوتحدث؟!

    يدخل جلالته وقد خارت قوى ضباطه من امامه، فهذه اول مرة يشاهدون فيها الملك بهذه الصورة من الغضب، لقد كان دوما رحمه الله تحيطه هالة من الهيبة والوقار مع هدوء ملفت للنظر، إلا أنها هذه المرة كانت مجللة بالقوة والصرامة ومرعبة لجلسائه، حملت الجميع على ان ترعد فرائصهم، فما بالك إذا وقعها على " ياتوم" رئيس الموساد كيف ستكون ؟! يحدق جلالته دون ان يرمش برئيس الموساد "ياتوم" ، وقد احمر وجهه غضبا، ويستمر التحديق دقائق وقد خيم الصمت والرعب على الجميع مما حدا ب " ياتوم " ان يعترف كطفل صغير أمام جلالته بكل ما فعلوه من دون أن يساله جلالة الملك، هكذا انطلق لوحده يغرد بالحقيقة لهول ما راى في وجه الحسين من حنقة وغضب، وجلالته ما زال يحدق به حتى قال له جلالته : " انت تضطرني الى ان اتصرف "، ومن ثم خرج جلالته من المكان ولم يتكلم بشيء، جملة واحدة أيها السادة هدت اركان الموساد، جملة واحدة ايها السادة جعلت " ياتوم " يقول : " لا يمكن لمشعل ان يموت "، وتغرورق عيناه من الدمع حزنا على ما اقترفوه، وينصرف مذعورا .

    جملة واحدة من الحسين أسقطت خطة صهيونية جهنمية على غرار عملية عنتيبي والتي تسمى أيضا بعملية جوناثان نتنياهو، وقد كان الأخ الأكبر لـبنيامين نتنياهو، والذي هلك في هذه العملية، ومن لا يعرف هذه العملية ومخططها هذا ملخصها : لقد كانت عملية إنقاذ لرهائن صهاينة، وقامت بهذه المهمة قوات إسرائيلية في مطار عنتيبي بأوغندا عام 1976، جرت العملية في الليل، حيث نقلت طائرات النقل الإسرائيلية أكثر من 100 من الكوماندوز إلى أوغندا لعملية الإنقاذ، وتم انقاذ 103 رهينة و تكللت هذه العملية بالنجاح.

    هكذا كان يخطط نتنياهو في عمان لانقاذ ما تبقى من فريق الموساد الذين احتموا في سفارتهم في عمان، ولإحياء ذكرى أخيه ولو كلف ذلك الأمر حمامات من الدم . إلا أن صور القمر الاصطناعي لنشامى الجيش محيطة بالسفارة وهم على اكمل استعداد -هكذا تم رصدها من قبل الامن القومي الامريكي- قد تم فهمها مع جملة الحسين تلك لياتوم على ان الخسارة قطعا ستكون حليفة إسرائيل.

    لقد رأيت عناية الله بالاردن حين شاهدت ملازمة جلالة المك عبدالله الثاني لوالده رحمه الله تعالى في أحلك الظروف وقد عايشها وكان فيها رقما صعبا، ففي كل مجلس من مجالس الحسين في هذه القضية كان جلالة الملك عبد الله الثاني حاضرا ومُوْمِئَاً برأسه بالموافقة على كل ما يمليه والده، فلقد كان الحاضر والشاهد، انها ارهاصات تولي القيادة من بعد والده ايها ساده، أفلا تعقلون!.

    يرد قندور بهذه الاسطر البسيطة والتي أوضح فيها متابعة جلالة الملك عبدالله الثاني لكل ما جرى في نحر من زعم يوما ان جلالة الملك عبدالله الثاني كان بعيدا عن الاحداث او انها لم تكن يوما من صلب أجندته يوم ان كان اميرا، لقد سردها غندور بعفوية كاتب الحقيقة، وكانت قنبلة من طراز رفيع.

    يصل نتنياهو الى عمان ليملي عليه الحسين اوامره... في البداية يدخل جلالة الملك عبد الله الثاني وكان يومها أميرا، يقابله بكل فتور وبسلام بالراس إيماء، وياتوم رئيس الموساد تقلقه ملامح عبد الله المُغْضَبَة، ويمهد الحديث للقيادة، لقد كان جلالة الملك عبدالله الثاني في الرواية حاضرا كما كان دوما في الاحداث والمستجدات حاضرا.

    وتجلس القيادة الصهيونية وسياستها كطفل يتعلم أمام الحسين، وتتم إملاءات المطالب الأردنية وتشترط القيادة الاردنية تطبيقها بكل حذافيرها، الترياق أولا، وخروج الشيخ ياسين، والأسرى.
    رأيت روح الله ترفرف في أروقة المستشفى رغم تراجيديا المكان، فكل نتائج الفحوصات تدل على ان مشعل يموت ببطء شديد، هنالك شيء في جسمه يسعى لانقباض عضلة القلب وليتوقف التنفس بعدها، ولا مجال للنجاة وكل المعطيات تدل على نهاية حياته، آتية لا محالة، الا ان الاطباء والحضور رغم ذلك قد امتشقوا الامل والرجاء على نجاته، لقد جسد قندور معنى الصبر والايمان والتوكل والمقاومة في التراجيديا التي نظمها في أروقة المشفى، يكفي هذا الفصل لوحده ان يكون فلما يجسد الالام التي كانت في المشفى.

    وها هنا رايت الله مرة أخرى ! رأيت روح الله ترفرف في سلواد والقدس، حيث ان الحب والحنان والعطف قد توشحته طرقات المدائن وزقاقها، فرغم القتل والتشريد والعذابات، ما زال الشعب المهجر حاضرا في اصقاع الأرض، وبالرغم من كل المصائب التي حلت بهم، خرجوا وأثمروا واينعوا وهاهم قد عادوا ودكوا صروح المغتصب بالعلم والمعرفة والنضال، ها هم قد حركوا العالم وانتفض العالم لقضيتهم، خرج المهجرون من ديارهم لا حول لهم ولا قوة، فكانت الاردن بهاشميتها أجمل كهف لفتية آمنوا بربهم فزادهم الله هدى.

    وها هنا رايت الله مرة أخرى . رأيت الله في رسائله التي جاءت تترا حين انتزع قندور اسرار العنجهية الصهيونية من سراديبها السرية، وسرد للعالم كيف يفكرون ، وكيف يُخَرِبون، وكيف يقتلون ، وكيف يتآمرون، وكيف أنهم حمقى.

    وأوضح ان خراب ديارهم ومخطاطتهم سيكون على يد حمار متطرف منهم، وان ما يحاك في كواليس سياستهم ودبلوماسيتهم اكبر بكثير مما يتوقعه الناس، الا ان عناية الله دوما تكلؤنا رغم تقصيرنا وتشتتنا وتخلفنا عن ركب التقدم والحضارة.

    رايت الله كيف أخرج شيخا ضعيفا لا حول له ولا قوة من غياهب السجن وظلماته وقهره وسطوته الى افخم مراكز العلاج الملكية وبرعاية ملكية وبزيارة ملكية، وبطائرة ملكية، وباستقبال ملكي، يحنو عليه الحسين بقبلة مستقبلا له بنفسه ويشجعه ويرحب به، فعل الحسين كل ذلك رغم برودة الجو والوقت المتأخر ليلا .

    لقد صور قندور الحسين رحمه الله بأسلوب إنشائي فريد يحملك على ان تقول وبدون تكلف "واحسيناه ...! لقد أتعبت الملوك من بعدك، حقا يا حسين !

    رايت الله في جمال أقداره ولطائف قضائه حين دبت القوة في شاب يقطع المسافات الطويلة مطاردا قوة الموساد فيدركهم ويقاتلهم، الا ان الإعياء قد اخذ منه بمكان فانهارت قواه، فَهَمَّ الرجلان من الموساد الى تحطيم راسه بحجر، وكان الخلاص منه على وشك، ولو تم لهما ذلك ما كان لهذه القصة ان تكون، الا ان العناية الربانية قدرت مرور أحد كوادر منظمة التحرير الفلسطينية والذي حسم الامر باقتيادهم الى اقرب مخفر وكانت القصة.

    لقد رأيت الله في هذا الترتيب وإنها لرسالة قوية، حماس، ومنظمة التحرير، ونشامى المخابرات، والحسين، وعرفات واحمد ياسين، و خالد مشعل، وكوادر من الجماعات الاسلامية والسياسية، وشعب في الاردن غضبان ثائر، واخوتهم في فلسطين مثلهم تماما، انها رسالة الاخوة و وحدة الصف، إنها الجبهة الداخلية وأهميتها أيها السادة الكرام.

    رأيت الله حين حرك رجلا مثل قندور من اصول شركسية ويعد من مشاهير العالم رواية واخراجا ليكتب معاناة شعب مهجر، وبنفس طويل ليؤرخ أعظم قصة ربانية بحقهم وبادق التفاصيل، ليوصل للعالم الحقيقة وبلغتهم وفي عقر دارهم، فقط فعل كل هذا وفاء واخلاصا لهذه الارض المباركة وقيادتها الهاشمية، ونصرة للمظلومين والمكلومين والمهجرين حول العالم.

    لقد شعرت أن نفسا حارا كان يلسعني احيانا في الرواية ويكأن الكاتب كان يستحضر فيها حين كتابتها، تهجير الشركس من القوقاز وجريمة الإبادة الجماعية التاريخية التي ارتكبتها روسيا القيصرية بحق الشركس، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى، ومليون ونصف المليون شركسي هجروا من موطنهم الأصلي في القوقاز او اكثر من ذلك بقليل، هكذا أحسست.

    ولا تزال صورة تلك المأساة وجراحها ماثلة في ذاكرة ووجدان الأجيال الجديدة من الشركس وغيرهم من الأحرار في العالم، في وقت تتجاهلها أمم عربية وإسلامية وكذلك موسكو و دول عالمية تدعي حقوق الإنسان للاسف.

    نعم لقد رأيت الله في الترياق ورأيت الله فيك يا قندور.





    [27-08-2019 07:53 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع