الرئيسية أحداث دولية

شارك من خلال الواتس اب
    يهوّذا الأميركيّ .. والعشاء الخليجيّ الأخير!

    أحداث اليوم -

    لو لم يكن الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب يعرف أكثر من غيره أنّ أعلى سقفٍ لسعر القصور الفاخرة التي تُبنى عادةً على الرمال لا يمكن أن يتجاوز ارتفاع مجرَّدِ موجةٍ عابرةٍ، لما كان قد استثمر في الحجارة وحدها لكي يبني بها امبراطوريّته العقاريّة الشهيرة التي أهّلته العام الماضي للانطلاق منها في سباقه الانتخابيّ نحو البيت الأبيض، ولما كان قد اشترط مسبَقًا، قبل الخروج من هذا البيت في جولته الرئاسيّة الأولى ميمِّمًا صوب المملكة العربيّة السعوديّة، الحصول على ضماناتٍ بشأن وجوب التوقيع على اتّفاقيّاتٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ مع دول مجلس التعاون الخليجيّ، تعود في مجملها على الخزانة الأميركيّة بأكثر من ألفٍ وخمسمئةِ مليارِ دولارٍ شهيٍّ وكاملِ الدسم، ولما كان قد بادر، فور تسلُّمه الثُلث الأوّل من قيمة هذا المبلغ الهائل أثناء وجوده في الرياض الشهر الماضي، إلى النفخ في مياه محيطات العرب وخلجانهم، سعيًا إلى إثارة الموجة المطلوبة واللازمة لتمكين إدارته من إيجاد المناخات الملائمة للعمل على رفع العوائد الماليّة لتلك الاتّفاقيّات كلّما استطاع إلى ذلك سبيلًا.


    وإذا كانت الأزمة الخليجيّة الراهنة قد شكّلت على مدى الأسبوعين الماضيين التجسيد الأمثل للنوايا "الترامبيّة" حيال منطقةٍ لطالما اشتهر قادتها ببراعتهم في مجال المحافظة على مقوِّمات الاستقرار والرخاء في دولهم، حتّى وإنْ كانت في عين العاصفة على غرار ما حدث في مناسباتٍ سابقةٍ عديدةٍ، مثل الحرب العراقيّة – الإيرانيّة في السبعينيّات والثمانينيّات، وحرب الخليج الثانية في التسعينيّات، والغزو الأميركيّ – البريطانيّ للعراق في بدايات الألفيّة الثالثة، فإنّ أخطر ما تجلّى على خلفيّة تردُّدات تلك النوايا سرعان ما ظهر بوضوحٍ من خلال المؤشِّرات التي دلَّت إلى وجود أرضٍ محلّيّةٍ خصبةٍ لنموِّها وانتعاشها، ولا سيّما أنّ التراشق المتواصل بين قادة الدول المنضويّة تحت راية مجلس التعاون الخليجيّ لم يعُد مقتصرًا على المسؤولين الرسميّين المتمترسين حاليًّا ضدّ بعضهم البعض، في انتظار الآتي الأعظم، بل وصل أيضًا إلى مستوى القواعد الشعبيّة في أوساط رعايا هذه الدول، الأمر الذي يُنذر بأنّ الجرح الخليجيّ النازف سيبقى عصيًّا على الالتئام في المستقبل القريب، حتّى وإنْ تمّ التوصّل قبل ذلك إلى تسويةٍ سياسيّةٍ للأزمة على أساس التذرَّع بالمبدأ التقليديّ الدارج الذي يقول "إنّ السياسة هي فنّ الممكن"، حسب ما درجت عليه العادة مرارًا في السابق، علمًا أنّ لا ملامحَ لمثل هذه التسوية تلوح الآن في الأفق ولا من يحزنون.

    هذا الكلام، وإنْ كان لا ينطوي على أيّ رغبةٍ في ذرّ الرماد في عيون أيٍّ من الأخوة والجيران المتنافسين، على اختلاف مبرِّراتهم ووجهات نظرهم، حيال خلافاتهم الراهنة، ولكنّ واجب التداول به في وسائل الإعلام، على أقلّ تقدير، ومن دون أيّ عمليّاتٍ تجميليّةٍ، يبدو في هذه الأيّام بمثابةِ ضرورةٍ ملحّةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولا سيّما بعدما أصبح في حكم المؤكَّد أنّ مخاطر السياسات التأجيجيّة التي تنتهجها غالبيّة المؤسّسات الإعلاميّة عن طريق انحيازها لهذا الطرف أو ذاك، لم تعُد مقتصرةً على ما ينجُم عادةً عن محاولات صبّ الزيت فوق ألسنة النار الملتهبة وحسب، بل وصلت أيضًا إلى حدّ الإمعان في تكريس الانقسامات العربيّة – العربيّة والخليجيّة – الخليجيّة وتعميقها وترسيخها، الأمر الذي لا بدّ من أن يتناسق في المحصّلة النهائيّة مع نوايا وطموحات الرئيس الأميركيّ الملياريّة التي لا يختلف اثنان من العاقلين على أنّها تحمل بصماتٍ ونزعاتٍ أسخريوطيّةٍ واضحةٍ وفاضحةٍ في آنٍ معًا.

    لا شكّ في أنّ تجلّيات هذه البصمات والنزعات التي ما زالت تظهر يومًا بعد يومٍ على خلفيّة عدم استقرار الرئيس ترامب وأعضاء إدارته على موقفٍ واحدٍ وثابتٍ حيال الأزمة الخليجيّة، كان لها بالغ الأثر في دفع السفيرة الأميركيّة في الدوحة دانا شل سميث على تقديم استقالتها من منصبها يوم السبت الفائت، وذلك بعدما أوضحت أنّ دولة قطر شريكٌ فاعلٌ للولايات المتّحدة في مكافحة تمويل الإرهاب، خلافًا لما يقوله الرئيس ترامب في هذا الخصوص، علمًا أنّ صحيفة "الإندبندنت" البريطانيّة كانت قد وصفت خطوة الاستقالة بأنّها تندرج في سياق ما يُسمّى بـ "التناوب الطبيعيّ" للديبلوماسيّين الأميركيّين في مختلف أنحاء العالم.

    على هذا الأساس، يصبح في الإمكان وضع علامةِ استفهامٍ كبرى حول فحوى التصريحات التي نقلها موقع "سبوتنيك" الروسيّ نهار أمس الاثنين عن لسان السيناتور الأميركيّ ريتشارد بلاك بخصوص ما لديه من تأكيداتٍ مستمدَّةٍ من تقاريرَ استخباراتيّةٍ مؤدّها أنّ الرئيس السوريّ بشّار الأسد قادرٌ على الفوز بنسبة أكثر من تسعين في المئة من عدد الأصوات، وبكلّ سهولةٍ، في أيّ انتخاباتٍ رئاسيّةٍ مقبلةٍ، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ تزامُن إطلاق هذه التصريحات مع الإعلان عن قيام الدول الخليجيّة المتنافسة، وعلى رأسها السعوديّة وقطر، بنقل ميادين مواجهتهما إلى الساحة السوريّة، من شأنه أن يرفع حدّة هذه المواجهات إلى درجة الدخول في مرحلة "كسر العظم"، سياسيًّا وعسكريًّا على حدٍّ سواء، الأمر الذي لا بدّ من أن يصبّ أيضًا في نهاية المطاف في صالح السياسة الأميركيّة البهلوانيّة الحاليّة التي تشي كافّة تجلّياتها بأنّها أصبحت تقوم على مبدأ استنزاف الجميع من دون أيّ استثناء.

    من هنا، وفي ظلّ إجماع المراقبين على أنّ هذا النوع من لغة الجنون لا يزال يتسيَّد المشهد الدوليّ والإقليميّ منذ دخول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض في مطلع العام الحاليّ ولغاية يومنا الراهن، فإنّ شيئًا من لغة العقل لا بدّ من أن يحتّم الدعوة مجدَّدًا إلى الاستدراك والتروّي عن طريق الاقتناع بأنّ لا تسويةً يمكن التوصُّل إليها بين الأخوة والجيران إلّا إذا كانت محلّيّةً صِرفةً، وذلك تفاديًا لتدخُّل الأسخريوطيّين الخارجيّين الذين يقفون على أهبّة الاستعداد لصبّ الزيت فوق نار الحرائق العربيّة كلّما استوجبت مصالحهم استعار المزيد من ألسنة اللهب.. وحسبي أنّ المؤسّسات الإعلاميّة قادرةٌ على القيام بدورٍ رياديٍّ في هذا المجال.. وعسى أن يحمل القادم من الأيّام من العقل والتعقُّل ما يكفي لترتيب دعوةِ عشاءٍ للمصارحة والمصالحة بين الأخوة والجيران، وإلّا، فأغلب الظنّ أنّنا مقبلون على جلجلةِ حروبٍ متتاليةٍ لن تنتهي قبل استنزافنا حتّى الدولار الأخير، ومن ثمّ الرمق الأخير، وهي الحروب التي سنكون فيها – في أحسن الحالات – خاسرين.. والخير دائمًا من وراء القصد!





    [20-06-2017 09:22 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع