الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    أول بطحة ..

    أيام زمان كنّا لا نقضي غرضاَ للبيت الا بأجر..حيث كانت تختلف تسعيرة الأجرة في المشوار الواحد حسب بعد أو قرب المكان وعدد الأغراض المحمولة والتوقيت الشتوي والصيفي و الليلي والنهاري..شراء «سيرف وسمنة ووقية حوايج»..لا تستحق أكثر من قرشين إلى «شلن».. بينما الهريسة بُعيد المغرب في الشتاء تستحق «شلناً» كاملاً لشراء حبة «بغاجة» منفردة من ذات الدكانة .. البحث عن زغاليل «لنفساء» صيفاً والنجاح بإحضار الزغاليل ممسوكة من آباطها ..كنّا نتقاضى عليها عشرة قروش مع كلمات ثناء منقطعة النظير «براو»..»عفية الأسد»،»انت ديك»! بالمقابل الفشل كان لا يخلو من كلمات التقريع... مثل» لو تروح ع البحر غير تنشفه»..»لو جبت حرذون وسلع بالسنسلة احسن لي»...الخ..
    بالعودة الى موضوع الأجرة لم يكن يعرف الأهل ، أن ما كنا نتقاضاه لم نكن نصرفه على ملذّاتنا الدونية حسبما يعتقدون.. بل في أغلب الأحيان يذهب تحت بند مصاريف طريق.. والمقصود بمصاريف الطريق تعرّضنا أثناء الذهاب أو الإياب إلى قطّاع طرق من زعرنجية الحارة أو عضلنجية الحارات المجاورة ومصادرة أي مادة غذائية تخصنا؛ «فصدقية سمسية» ..»حبة دبل ويل»..»شيبس فطوطة».. وفي أغلب الأحيان يتم أخذ القيمة نقدية منّا قبل الشراء..طبعاً كنا نواسي أنفسنا عندما نحتسب «الشلن» عند الله ولا نعتبره من الخوف او التهاون ، بل هو من باب إخماد الفتنة وإطفاء جذوة الشر لا أكثر...
    شخصياً كنت أسلك طريق السناسل والذي يشبه طريق الحرير..هذه الطريق عادة لا يسلكها الا انا وحمير الحي..وتغيب هذه الخطائط عن بال الزعران لأنها وعرة وضيقة ومليئة بالشوك والأكياس الفارغة...أحمل «زبدية» الرايب بيدي وأذهب بعد المغرب إلى بيت أحد الجيران الذين يقتنون الحلال لــ «ترويب» اللبن فيها وإحضارها في الصباح الباكر طازجة ومتماسكة.. وكلما رأيت «عضلنجي»الحارة يقف أمام بيتهم .. كنت أضع «الزبدية» على رأسي كخوذة وامضي بها وقد غطّت عيني كي لا أراه معتقداً انه لا يراني... وكلما سمعت احدا ينادي «احمد» كانت تزيد ضربات الألمنيوم على جبهتي ويزيد صدى الريح في التجويف المعدني الذي ألبسه على رأسي وانا اجري ... بقيت أخاف من ذاك الفتى القوي وأتجنب الاحتكاك به وأتبرع بأجرتي عن طيب خاطر اذا ما تلاقينا وجها لوجه... حتى شهدت ذات مرة معركة بينه وبين احد أولاد الحارة.. حيث تمكن الأخير من بطحه أرضاَ وركله دون أن يرد الهجوم الا بمزيد من البكاء والجعير... وكنت سعيداً جداً لهذه «البطحة» فقد سقط من عيني تماماً وكسرت هالته إلى الأبد... ومنذ ذلك التاريخ تحررت من خوفي المقيت ولم أعد أخشاه ... بل صرت أجود بكل ما أملك «من فيصلية» و»شلونه» و»حلو أحبال».. و»محاية بريحة» الى العضلنجي الجديد ... أيضا عن طيب خاطر وايماناً واحتساباً لوجهه الكريم...
    * * *
    ما يحدث بين روسيا وأمريكا اليوم.. يشبه : «أول بطحة»... بقينا نخاف من أمريكا وهيمنتها كقطب واحد.. الى ان «بطحت» روسيا أمريكا في سوريا مؤخراً ... ومنذ شهر الى الآن لم يبق زعيم او وزير او رئيس دولة في الوطن العربي الا واتصل او زار او صافح «بوتين» وتصور معه... وبدأنا نسمع عن فعاليات روسية ثقافية وتعاون مشترك صارت تنبت فجأة في عواصم بلاد العرب .. تأسيس جمعية روسية عربية للثقافة والفنون هنا ... وافتتاح هيئة الصداقة العربية الروسية هناك ..... والتأكيد على عمق العلاقات التاريخية بين العرب وبينهم .. طبعاً كل ما سبق هو ليس خوفاً او تهاوناً وانما ايضاَ ايماناً واحتساباً لوجه الله الكريم..





    [25-10-2015 12:27 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع