الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    الإصلاح بين بيروقراطية المؤسسات وعقم المعارضة

    كتب: م .محمد مرشد حماد - مما لاشك فيه أن تطور وسائل التواصل الاجتماعي قد غير مفاهيم صناعة الرأي العام، وحَرف بوصلة مراكز الأبحاث والدراسات عن جوهر أهدافها، وحَدَ من سطوة أجهزة الرقابة التي سلطتها بعض الحكومات؛ لتفرض على شعوبها منظومة الفكر الانتقائي، أحادي المشرب السياسي، والذي زرع في وجدان شعوبها بذور مرجعية تعطي مؤسسات السلطة القائمة روح البقاء والديمومة.

    وفي السياق ذاته؛ تأرجحت كيانات المعارضة في المجتمع العربي بين مطرقة المنع المطلق، أو سندان المشاركة في برلمانات ظاهرة العور، ومنقوصة التمثيل؛ فهيُ لا تعبر عن تطلعات مجتمعاتها؛ وقبلت على نفسها أن تُوضع في قالب لا يناسب حجمها، ولا يُطبق أدبياتها ، وسقطت أحياناً في صراع النكايات السياسية، وأحياناً أخرى ساومت على التسويات في البرلمانات، أو خلف الأبواب المغلقة لدهاليز السياسية؛ لأجل شرف المشاركة في الوزارات أو ليحقق النائب مكاسب له ولمناصريه.

    هذا المشهد في البرلمانات العربية، جعل منها في أعين شعوبها مؤسسات نخبوية تتصارع على الإمتيازات والمصالح، دون الإكتراث لمشاكل المجتمعات العربية المُلحة، ولا ترتقي لسقف مؤسسات المحاسبة والتشريع، ومن هنا يمكن لنا تلخيص عيوب البرلمانات العربية بالأتي:

    تركيز أعضاء هذه البرلمانات على السياسة الخارجية للدولة وتحالفاتها، وإهمال المشاكل الاقتصادية والاجتماعية؛ وظهر هذا جلياً في البرلمان اللبناني، وسلوك الإسلاميين والقوميين في عديد البرلمانات العربية، ولاحقاً في البرلمان التونسي الوليد.

    الإهمال الكامل لمشاكل الشباب العربي، وتمثيلهم وحقوقهم وشكل مستقبلهم، وللأسف لم يصحح هذا الخطأ في البرلمانات بعد الربيع العربي؛ رغم أنه سلط الضوء على مشاكل الشباب وتطلعاتهم.

    ضبابية تمثيل المرأة الذي تنوع بين المحدودية، والعنصرية الإيجابية تجاهها؛ فولد حضور برلماني نسوي يدافع عن قضايا لا تُهم السواد الأعظم من النساء العربيات، ولا يخلق المناخ والتشريعات التي تجعل منهن عنصراً فاعلاً، ويحفظ خصوصية المجتمع العربي وقيمه.

    لعبت فوبيا القمع الأمني، والصراعات على القيادة الحزبية دوراً سلبياً في انتماء الأفراد للأحزاب فانحصر بين النخب، أو الرفاهية الرأسمالية الباحثة عن الحضور الاجتماعي ليرافق تضخم ثرواتها، وبهذا لم تستطع الأحزاب المساهمة الفاعلة في الحياة البرلمانية، وعجزت عن بناء مؤسسات حزبية متخصصة تتبلور منها برامج إصلاحية واقعية قابلة للتنفيذ؛ إن هي نالت أغلبية برلمانية.

    جعل الصراع التاريخي بين العلمانية والإسلام السياسي التوافق الأيديولوجي فوق التخصصية ؛ فتعززت ثقافة الإقصاء الشامل وأحياناً العنيف تجاه الآخر، مما أعاق الإصلاح البَنّاء، وبَث هذا الصراع الروح في الإدارات الكلاسيكية؛ فتمكنت من حماية بيروقراطيتها وقاومت التغيير حتى لو كان حتمي الحدوث ومضمون النجاح.

    مجمل الدول العربية التي تمتلك هامش من الحرية البرلمانية، تتعرض حكوماتها لضغوطات إقتصادية من الإقليم أو المجتمع الدولي، تجعل هامش المناورة عند الحكومات محدود الخيارات كون نتائج أي برنامج إصلاح استقلالي تتأخر، والمواطن العربي لم يعد قادراً على تحمل المزيد من التقشف والتضحية.

    تجربة المواطن العربي مع الأحزاب اليسارية والقومية كارثية ؛ فقياداتها تتحمل أخطاء ما يزيد عن نصف قرن، وخرجت من أرحامها أعتى الديكتاتوريات التي غيرت ملامح الإنسان العربي وسحقت عنفوانه.

    بعد صدمات الفكر الزلزالية التي خلخلت الفكر السياسي العربي وهزت ثقته بالتوجه اليساري والقومي، تَولد مناخ ملائم لصعود الإسلام السياسي الذي ربط نفسه بشكل أو بآخر بالعصر الذهبي للحضارة العربية، والتي عمادها التشريع الإسلامي، ولكن الإسلام السياسي الشيعي أو السني نقل برنامج اإصلاح الدولة التي ينتمي اليها الى برنامج إصلاح أممي متشعب الملفات ومتشابك المصالح.

    قوضت هذه الصراعات وجود المؤسسات برمتها في يعض الدول العربية في وقت لم تجد فيه من يغفر لها الفشل، ويعطيها أدوية الإنعاش، بل ساهم جمود منهجها واللجوء للحل الامني منفرداً في تغير بنيتها كما حدث في سوريا وليبيا.

    العلاقة بين المعارضة ومؤسسات الدولة، وأحياناً بين مؤسسات الدولة ومواطنيها تتسم غالباً بانعدام الثقة؛ فإدارة مؤسسات الدولة تصر على نهجها القديم الذي لا يقدم حلولاً جوهرية ملموسة النتائج، وتمنع دفق التطور الإداري والتقني من الدخول الى مبانيها المتهالكة حتى يصبغها بطلاء الحضارة على الجدران التي ما زال مراجعوها يمسحون حبر بصمة الإصبع عليها.

    أما المعارضة؛ فتنتقد كل ما يصدر عن مؤسسات الدولة دون تقديم برامج عملية للمساهمة في بناء دولة قوية متحضرة؛ ولا تَتَبنى منهجاً وخطاباً من شأنه أن يمنع انفجار الثورة الفوضوية التي تحرث الأرض دون امتلاكها للبذر وتعول على المطر والريح؛ لكي تجني ثماراً لا تنمو في تراب أوطانها، وإن حملت الريح بذورها صدفة أو بترتيب خارجي إليها.

    المؤسسات في معظم الدول العربية تمتلك من المقومات المادية والمعنوية والقوانين التي تكفل نجاحها وتطورها؛ إن هي نالت إستقلالها وحدثت إجراءاتها، دون تغول مؤسسة على أخرى، ومن المحزن المبكي أن أغلب عيوب هذه المؤسسات هي عيوب إدارية وليست عيوباً فنية ؛ فهي لا تحتاج الخبراء الأجانب بل تحتاج إعادة ترتيب الأولويات وتحديد الإختصاصات التي سنها وحددها وصانها الدستور.

    الجيل الجديد لا يملك الثقافة أو الفكر السياسي الراسخ بل من الواضح أنه يتأثر بما يتلقاه من وسائل التواصل الاجتماعي، والتي لا تتحكم بها أغلب الدول العربية.

    وكنتيجة لهذا الواقع؛ تراجع دور النخب والقيادات والمفكرين، وصنعت منصات التواصل الاجتماعي مع الاعلام المرئي نخباً صُممت وركُبت وبُرمجت؛ لتعزيز ثقافة الاستهلاك الجشع، وتشجيع متابعيهم على تجاوز جميع الخطوط الحمراء والتمرد لمجرد التمرد ، وليس من أجل هدف يتم تحقيقه بخطط مدروسة وقابلة للتنفيذ.

    فالعائلة صُورت كالسجن الذي يَحول دون الانطلاق لحياة المتعة والرفاهية، ورجال الشرطة جُسّدوا أنهم فاسدون أو بلهاء من السهل خداعهم ومن غير الممكن الإعتماد عليهم لتحقيق العدالة عداك عن الاسراف في تجسيد حياة المجرمين والمدمنين وكيف تم اجبارهم على هذا السلوك.

    إن تأخير الاصلاح الإداري الجوهري لبعض المؤسسات التشريعية يزيد الفجوة بين الواقع في الشارع العربي ومؤسساته؛ وبالتالي يجعل من الصعب بمكان قراءة أحدهما للآخر، ومن البديهي أن يبدأ بمد جسور الثقة وترميمها ، وهذا لا يتم بأي شكل من الاشكال دون اصلاح تربوي سريع، وقادر على زرع ثقافة اجتماعية وسياسية؛ فالحضارة لا تعني المدنية والمدنية ليست بالضرورة نتاج حضارة وكلاهما جوهره الإنسان وثقافته وتوجهاته.

    لن ينجح الإصلاح دون الاعتراف بالأخطاء، ووضع الأمور في نصابها وخفض سقف التوقعات والإيمان بالإصلاح التدريجي الذي عماده بناء فكر وثقافة الإنسان العربي، وتقوية المؤسسات وإعادة هيكلة مؤسسات التعليم التي دفعت ثمنا باهظاً حينما أهملت التربية وركزت على العلوم المجردة.






    [19-10-2020 08:15 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع