الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    غسيل نتنياهو المتسخ

    كتب: م. محمد مرشد حماد - كم أشفق على الجاحظ وهو يكتب البخلاء؛ في بلاد وُصف أهلها بالكرم والجود والسخاء، وخلدوا أصحاب هذه المناقب؛ فلم يجد ابن بحر إلا المسكينة ليلى الناعطية؛ فكتب عن ترقيعها لقميصها، ومعاذة العنبرية التي تمارس ما نسميه اليوم التدبير المنزلي، إلا أن الجاحظ سبق المبدع شكسبير حين وثّق قصص البخلاء الهزلية التي تفوقت على تاجر البندقية، رغم ذلك كلاهما لم يعاصر هيتي غرين الملقبة بساحرة وول ستريت الشريرة، والتي خلفت ثروة قيمتها (2.3) تريلون دولار حسب وقتنا الحاضر، ومع كل تلك الثروة كانت ترتدي نفس الملابس السوداء طوال حياتها.

    قد تُفاجئنا تصرفات البخلاء حين نراها أو نسمع عنها، كرؤية شخص ما يزن كل المعلبات على الرف في المتجر، ليجد العلبة الأكثر وزناً فيشتريها، وراكب الطائرة الذي يجمع بقايا الطعام عن طاولات الركاب ليؤمن طعامه لعدة أيام، لكن كيف تصدر هذه التصرفات عن الممثل الأول لدولة؟

    فيُصدر قراراً لمؤسسات دولته بضم الضفة، وقراراً أهم لعائلته بالتوقف الفوري والتام عن الغسيل في البيت؛ فزيارته للبيت الأبيض بقي عليها شهراً فقط، وأعلنت الخدمات اللوجستية في البيت الأبيض المستوى الأول حسب مقياس ديفكون (DEFCON)؛ استعداداً لتنظيف كل الغسيل المتسخ لضيفها المحبوب نتنياهو.

    نعم أيها السادة، عشرة حقائب ممتلئة بالغسيل المتسخ من بيت نتنياهو في كل زيارة من زياراته الميمونة للبيت الأبيض وبهذا خسر الجاحظ محتوى استثنائي لكتابه، ولو جاء شكسبير النبأ لبادر واعتذر من المبجل شيلوك، وغير عنوان مسرحيته ليكون (تغريبة ملابس عائلة نتنياهو المتسخة)، واعتذرت أنا للمبدعين هشام يانس ونبيل صوالحة عن الضلال الذي اقترفته؛ حين شككت بواقعية مشهد طلب غداء الوفد الأردني الفلسطيني المشترك والوفد الإسرائيلي؛ فبداية ذلك المشهد كانت عند طلب معالي عبد السلام المجالي منسفاً بالجميد الكركي، وطلبت الدكتورة حنان عشراوي مسخناً بلدي لكن الوفد الاسرائيلي لم يطلب شيئاً بل قالوا: سنأكل فائض طعامكم، ولا زلت أذكر رحلة الطائرة من نيودلهي حين كادت مضيفة الطيران أن يُغشى عليها حين استحوذ الوفد الرياضي الاسرائيلي على كل البطانيات في الطائرة وزجاجات النبيذ والكولا والمياه المعدنية فور هبوطها.

    حين كنا نشاهد مسرحية هشام ونبيل أنفة الذكر، سألتني زوجتي: كيف لمن يبخل عن دفع فاتورة غذائه أن يعيد لنا أرضننا؟ علماً أنها تتقن طبخ المنسف والمسخن، وأحيانا تُعدهما معاً عند اختلاف أذواق المدعوين، ولكنها للأسف لم تنتظر إجابتي ولم تترك لي فرصة التفكير بجدوى المفاوضات حيث عقبت قائلة: أحضر معك من السوق غداً جميد وصفيحة زيت ومسحوق تنظيف؛ فأدركت أنها تستعد لوليمة وأهملت المسرحية لأفكر بثمن الجميد والزيت واللحم، ولكن كأن الزمن توقف؛ وأجابنا نتنياهو: لن أعيد الأرض؛ فهو مبتهج بعدد الدول التي تقيم علاقات مع دولته تشمل free laundry))؛ فمع كل دولة تعترف بدولته، يزداد عدد مرات الغسيل المجاني لملابسه المتسخة بمختلف أنواعها وحمرة لونها، والطعام المجاني لوفوده دون أن يسحق أحدٌ أفكارهم، ويحصرها بثمن الزيت أو الجميد ولا حتى مسحوق الغسيل، لكنه بالتأكيد لن يأكل أبداً منسفاً أردنياً أو مسخناً فلسطينياً، ولا حتى الكشري فالمسرحية انتهت ومسرح هشام ونبيل لم يعد يعرض الروائع، وأفشله زمن التباعد الاجتماعي.

    لكن هل فقط ملابس نتنياهو المتسخة، تُغسل في البيت الأبيض؟ أم أن هناك عقول تُغسل، وعمليات تجميل لوجه دولة الاحتلال التي تُمارس كل أنواع السرقة والعنصرية والعربدة ضد شعب تنازل عن كل شيء إلا الكرامة، وما تبقي له من وطن؟

    وبعيداً عن قصص البخل والبخلاء وشكسبير والجاحظ، الواقع الذي نعيشه يُولّد الإحباط في وجدان كل عربي؛ فهو يُذبح من الوريد الى الوريد مجازاً أو واقعاً، ويَطلب منه ظالموه أن لا يُلوث دمه خنجرهم المغروز في قلبه، ويُسكت صوت الكرابيج وهي تأكل لحمه، وأن يستمع الى لغة العقل على أنغام القنابل وهي تحرق ذويه، وأن يطرب لصراخ الثكالى والأيتام والمظلومين الذين ضاقت بهم الارض بما رحبت حتى لفظتهم البحار، ويرى بلاده تُقطّع أوصالها بين قراصنة البحار التي جلبت معها أقبح الغربان، وأرذل المرابين؛ فسلموا لحم أنطونيو لشيلوك ولم يكترثوا كم سيبقي من الدم عند قطع رطل من لحم الصدر.





    [28-09-2020 11:24 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع