الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    فضيلة الثقة والانتماء

    م. محمد مرشد حماد


    عند ركوب الطائرة وكما الحياة نترافق مع أناس قد نتفق وأفكارهم أو نختلف لكننا مجبرين أن نسمعهم حتى تنتهي المرحلة التي وحدت وجهاتنا.
    منذ سنوات سافرت عبر مطار بيروت الى روما لحضور أحد المنتديات البيئية ، وكان الركن
    الذي أجلس فيه يحمل تناقضات المجتمع العربي برمته فوق ما يحمله من الكتل البشرية ، فهاهي المضيفة الحسناء تسعى جاهدةً لتلبية طلبات وزير دولة عربية فشكى مواطنها - بلهجته الطرابلسية - إهمالها إياه ؛ تلك الشكوى التي كانت مدخلاً لحوار بين الوزير وصاحب الشكوى الذي بالغ بإطلاق لحيته ووضع جواز سفره الفرنسي في الجيب العلوي لثوبه الأبيض القصير ممسكاً بيديه كتاب الولاء و البراء .
    وما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسي مستمعاً لنقاش أقل ما يُقال عنه أنه بيزنطي ، يتبنى فيه كل طرف مواقفه بناء على إنعدام الثقة بين معالي الحزبي العتيد الذي يبحث عن العلاج في مستشفى أخن الجامعي في ألمانيا ، ورجل الدين الذي يعمل في أسواق نيس المتوسطية درة الريفيرا الفرنسية وليس في باب التبانة .
    أبدع عالم الإجتماع إبن خلدون في مقدمته التي تعتبر منارة إهتدى بها علماء الإجتماع ، حتى أن جُلهم إعتبروه المؤسس الحقيقي لعلم الإجتماع وليس أوغست كونت ، رغم ما قدمه الأخير من إنجازات في دراسة الفلسفة الوضعية ، إلا أنه لم يركز على البيئة وتأثيرها الحاسم بل تناول السلوك وتفاعل الفرد مع مجتمعه ودوره تجاه الإنسانية جمعاء.
    إبن خلدون تأثر بتعاليم الإسلام أما كونت فقد عايش إنبلاج فجر الإيديولوجيات
    الحديثة والحروب النابليونية ونشأت المصانع الكبرى ، التي أوجدت طبقات إجتماعية ذات
    توجه مادي مجرد من الأخلاق والقيم الإجتماعية التقليدية ، ركز إبن خلدون على البيئة بينما
    ركز كونت على بناء الأسرة ودعا الى تعزيز فضيلة الإنتماء للنظام والولاء للوطن أو الأمة
    على حساب حق الفرد ومنافعه .
    ما يقلق علماء الإجتماع والبيئة حاضراً إنتشار الفكر المادي المجرد الذي يحرم الإنسانية من
    فضيلة الثقة بالأخر و الإنتماء لمنظومة القيم وحسن الخلق , بل تسبب في نزعها من وجدان
    شركاء البيئة أو الوطن أو الكوكب برمته فصار الفرد يبحث عن رصيده المادي دون الإكتراث لإرثه الأخلاقي الذي ميز البشر عن باقي الكائنات التي تحكمها غرائزها وشهواتها .
    الإرث الأخلاقي هو حجر الزاوية الحضارية لأي منظومة إجتماعية حتى أنه سبق نشوء الدول وساهم في تنظيمها , قبل أن تظهر النظرة المادية المجردة التي تقيس الإنتماء للمجتمع بقيمة الراتب و الثقة بالمؤسسات بمجانية الخدمات ، فغدت الزعامة أو التميز إنعكاساً لما يُقدم للآخرين من منافع مادية ، فرجل الدين الذي يعمل ويعيش في فرنسا ينتقد مهنة المضيفة في بلده الأم الذي يعاني جل شبابه من البطالة ومحدودية الدخل ومعالي الوزير لا يفحص قلبه في بلده الذي يصفه بقلب العروبة النابض بل ينتقد تخلف من يخالف أيديولوجيته التي تتجاوز إبن خلدون وتبدأ التعلم من عهد كونت .
    حينما يقارن الإنسان بين إبن خلدون و كونت نجد أن نظرياتهما بُنيت إما على تأثير البيئة أو
    ثقافة الفرد لكن دع عنك زمن إبن خلدون وزمن وكونت فالأوطان تُصلحها أخلاق الفرد الذي ترعرع في بيئة قوّمت فكره ومن يُفسد الأوطان الفرد الجاهل حتى لو نال أعلى الدرجات العلمية حين يمارس المنطق المادي المجرد متذرعاً وهو كاذب بذنوب غيره ومفاسدهم حتى تجده لا يرحم مريضاً ولا يحترم كبيراً ولا يعطف على صغير بل يستغل طيبة ضحاياه فيفقدهم الثقة بمجتمعهم ويدخلهم في أتون صراع أصحاب كونت وأصحاب إبن خلدون الذي سيبقى في التوتير والشاشات وستسمر المضيفة تعمل و تودع الشباب وهم ينزفون الأعمار في غربة لا تنتهي .
    العدو الأخطر لأي منظومة إجتماعية هو من يثير الفتن وينسج الأكاذيب ويحيك المؤامرات ليُفرّغ عقده النفسية التي جعلته عبداً للمادية المجردة وعدواً لفضلاء المجتمع الذين يعملون بصمت لبناء مجتمع فيه مستشفيات للقلوب يُزرع فيها الحب مع فضيلة الثقة والولاء





    [04-07-2020 09:11 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع