الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    صور من ملحمة الموت والحياة في البحر الميت
    من فاجعة البحر الميت

    كتب: موفق الحجاج

    قبل أيام مرت الذكرى الشهرية السابعة عشرة لفاجعة البحر الميت، ذاكرتي وذاكرة أهالي الضحايا وشهود الفاجعة تعج بمئات المواقف والصور التي فشل الزمن حتى الآن في محوها ولا أظنه سينجح يوماً، هذا يسير من فيض ذاكرة ذلك اليوم، أعتذر عن طول النص فذاكرة الوجع أطول:

    همس الأصابع الصغيرة
    طفلان تربطهما صداقة الطفولة بكل ما تحمله من ملائكية، يتكيء أحدهما على كتف الآخر بعد أن أصاب قدمه بعض الوهن، حين داهمهما السيل الجارف تشابكت يداهما بشدة، كان الماء أقوى منهما فأخذهما كل في طريق، حاولا التشبث ببعضهما حتى الرمق الأخير دون طائل، كان ثمة حديث لم يكتمل تبعه وداع دافئ تبادلته أصابعهما الغضة قبيل الفراق وشيء من طمأنينة سيظل عالقاً في قلبيهما إلى الأبد... لا موت يشبه الموت بين يدي صديق!

    سنشد عضدك بأخيك
    ثلاثة أطفال عالقون على ضفة وادي الموت، أحدهم ابتلع السيل أخاه التؤام ولم يتمكن من مساعدته، بعد أن استنزف الحزن روحه واستنزف التعب والبكاء طاقته، باح لرفاقه بعتبه على الله، لأنه كان يملك خيار أن يترك أخاه الذي لم يرى من الدنيا شيئاً بعد، ويستبدله بأبيهم الذي نال من الدنيا قسطاً معقولاً، ذات الطفل وبعد أن علم بنجاة تؤامه هدد رفاقه بالذبح إن هم أفشوا ما باح لهم به!

    رباطة جأش
    ثلاثة أطفال يتأرجحون على قطع صخري مخيف بالكاد يتسع لأجسادهم الضئيلة، يحتاج أحدهم لتلبية نداء الطبيعة، هو يعرف أن صديقه الذي يقف إلى جواره " منقرف" فيطلب منه أن يتماسك ولا يهتم لما قد يطاله من رذاذ البول، ففي نهاية الأمر سيتخلصون من ملابسهم ويغتسلون حال الوصول إلى بيوتهم... وإن اغتسلت أجسادهم ماذا سيغسل الذكرى الأليمة من نفوسهم!!

    قربان الماء
    طفلة جعلها الله مسطرة للجمال، كانت تتشبث بصخرة نجاة، أفسد الهواء تسريحة شعرها فاستفزها غباء الهواء وجهله في إتيكيت التعامل مع البنات، تفلت يدها من صخرة النجاة وتسلّم جسدها للماء... كانت تملك فرصةً للنجاة لكنها لا تفرط بأناقتها حتى لو صارت قرباناً للماء!!

     حسرة
    أم تأخذ إجازة من عملها لكي ترافق بنتها إلى الرحلة خوفاً عليها من أن تسقط أو تجرح، يخطف الماء البنت من بين يديها وتظل هي معلقة على قطع صخري ساعات طويلة وهي تردد: يا ليتني كنت أنا... ستظل معلقة على صخرة الندم ما تبقى من عمرها وتردد نفس العبارة!!

    المسيح فكرة
    صبية، للتو فاح ياسمينها وراح يجذب قلوب العاشقين، إختارت الموت مصلوبةً على الجسر الفاصل بين وادي الموت وبحر الملح، على مقربة منها إختارت أم لم يتجاوز رضيعها الوحيد أشهره الأولى ذات المصير وعلى ذات الهيئة. ربما كانتا تمتلكان فرصةً للنجاة، لكنهما اختارتا أن يكون جسديهما حاجز صدٍ بين اللحم الطري وبين البحر، فالملح على الجراح المفتوحة موجع، هذا ما تدركه بالفطرة قلوب الأمهات وكذا قلوب العاشقات!

    إن متّ، فمت رجلاً
    عائلة فقيرة جداً، تراوغ الفقر وتقتنص منه ساعات من الفرح المحرّم على الفقراء، تذهب في نزهة عائلية إلى وادي الموت، يتصادف وجودها مع فيضان الوادي، يهب رجالها لرد الغدر عن الأطفال الذين راح السيل يبتلعهم، يغضب السيل الجبان الذي أحرجته مروءتهم الطاغية فيلتهم ثلاثة منهم ويترك الرابع يكابد عاهةً مستدامة... اليوم، حين تحدث العائلة عن خسارتها الهائلة، يردون عليك بأن الرجولة اقتضت ما قضى القدر!

    "شرف العائلة
    طفلة تأخر العثور على جثتها حتى منتصف الليل، حين قرر الدفاع المدني إيقاف البحث حتى صباح اليوم التالي، هبّ رجال عائلتها للبحث عنها في الظلام الحالك ودون معدات وفي مكان لا يعرفون عن تضاريسه شيئاً، فشرف العائلة يأبى عليهم أن يتركوا بنتهم وحيدة وخائفة وبردانة طوال الليل... رغم أنهم كانوا على يقين بأنها ميتة!

    هو الوعي حد الخرافة
    طفل لم يتم الحادية عشرة بعد، ألقاه السيل في البحر المالح وسط أمواج متلاطمة من الصخور والطين، فقد القدرة على الإبصار بسبب الملح والأتربة التي علقت في عينيه، أخذ يسبح مستعيناً بقطعة خشب بإتجاه الأصوات التي كان يسمعها، حين وصل إليه المنقذ، ضربه على فخذه وبادره بالسؤال: من أنت؟ كان يعرف أن البحر يفصلنا عن عدو محتل، ويريد الاطمئنان أن اليد التي تمتد إليه يد صديق!

    طابور الفقد
    إمرأة يخضع أحد أطفالها لجراحة عاجلة في مستشفى بعيد ولا تعلم شيئاً عن مصير شقيقه المفقود، تتنقل برباطة جأش بين الأمهات الثكالى، تعزي هذه وتشد أزر تلك وتطمئن من لها طفل مفقود، هي ليست قوية كما تبدو، لكن يقيناً ما تسرب إلى قلبها بأننا جميعاً نقف صفاً في طابور الفقد، والتوقيت فقط هو الفارق بيننا!

    يا موت بالله على هونك
    أب يدخل غرفة الموتى، بهدوء يخرج جثة إبنته من كيس الموت ويبدأ محاولات إعادتها إلى الحياة، الرجل لا يبدو تحت تأثير نوبة عصبية أو حالة هستيرية، هو على يقين بأن الأب شريك الله في التكوين وهو الوحيد القادر على إعادة الروح إلى جسد إبنته!


    أب اخر يدخل الغرفة، يتعرف على جثة إبنه من أول نظرة، يخبر الأطباء أن هذا ليس إبنه ويخرج، هو لم يشك للحظة بأن ذلك صغيره لكنه لم يرد أن يتخلّى عنه دون مقاومة!

    فوضى المشاعر
    رجل يصل إلى المستشفى ليجد أحد أبنائه من الناجين، يفرح
    يستدرك أن إبنه الآخر ما زال مفقوداً، يبتلع القلق روحه، تبلغه زوجته أن أحد أصدقاء إبنه قد مات، يخنقه الحزن، يرى مسؤول حكومي كبير تلفه هالة من البرود، ينفجر غاضباً، يأتيه خبراً عن إبنه المفقود فيفرح، ينظر للموت المحيط به، يخجل لأنه فرح ويشعر أن فرحه العابر هو خيانة لأرواح من رحلوا..لا شيء يشبه أن تشعر بأن الفرح المستحق في لحظته هو خيانة لحزن مستحق في ذات اللحظة!!

     لؤم
    على شاشة التلفزيون من مستشفى الشونة، مسؤول حكومي تعلو وجهه طبقة سميكة من اللؤم، يجتهد في تجميل صورة مؤسسات الدولة، فيما رائحة الموت والجراح والدموع تزكم أنفه!

    بلادة
    مسؤول حكومي تعلو وجهه طبقة من البلادة، يطلب من الأمهات الثكالى والأهل المكلومين أن يطمئنوا، ويستشهد بالله على ما يبذله رجاله من جهد، فيما كان الله يستمع لشهادات حيّة من الضحايا عن مقدار خذلان الدولة لهم!

    علامات فارقة
    في المشرحة، كانت العلامات الفارقة والملابس هي سبيل بعض الأهل الوحيد للتعرف على جثث أحبتهم، كان بعضهم يستعين بالأصدقاء للمساعدة في ذلك، ربما كانوا عرفوهم لكنهم لم يريدوا الاعتراف بذلك!.... احفظوا تفاصيل أحبابكم جيداً واحفظوا علاماتهم الفارقة، فربما يأتي يوم وتكون سبيلكم الوحيد للتعرف عليهم!





    [29-05-2020 08:30 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع