الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    “الجنوب” ما بعد كورونا

    فيما يبدو أن الناس حول العالم منشغلون اليوم بمتابعة أخبار جائحة كورونا وتداعياتها الصحية والنفسية القاسية التي ألقت بظلالها القاتمة على سكان الأرض، شرقيها وغربيها، فقيرها وغنيها، مُمنّين النفس بانتهاء الجائحة ورفع الحظر وعودتهم لحياتهم الطبيعية، تبدو الأزمة الأعمق والأقسى راقدة هناك.. تتفاعل وتعتمل تحت السطح، مهددة بما هو أقسى من آثار صحية مباشرة لا بد منتهية قريبا أو بعد حين.
    المقبل من أيام هذا العالم يحمل تداعيات وتحديات اقتصادية وأمنية واجتماعية صعبة ستطال بشرورها مختلف دول العالم، وإن كان بدرجات متفاوتة، حيث الآثار الأعمق والأصعب ستكون من نصيب دول الجنوب والعالم الثالث ذات الاقتصاديات الهشة وغياب الحاكمية، ونحن هنا نتحدث عن دول كبيرة جغرافيا وسكانيا وأخرى صغيرة تكاد تجتمع جميعها بذات الداء وهو ارتباط طبقاتها المتنفذة بالمركز الرأسمالي المتوحش، عملت منذ عقود وما تزال تعمل على مراكمة الثروات والمصالح الشخصية على حساب التنمية والكفاية الوطنية وبناء المجتمعات والاقتصادات الحقيقية.
    تعمق مساحات البطالة والفقر بل وحتى الجوع، وتراجع الإنتاج الوطني على محدوديته، وتزايد العجز بموازنات الدول وانعكاس ذلك على ما يخصص للحماية الاجتماعية على ضعفه، وربما انهيار قطاعات اقتصادية مهمة كما الحال منذ الآن مع قطاعات السياحة والسفر، كل هذا باتت معالمه وإرهاصاته واضحة حول العالم، لكن انفجاره بأزمات معيشية واجتماعية وأمنية واسعة ما يزال قيد التفاعل، يكفي أن نتصور تعطل قطاعات اقتصادية ومئات الملايين من العمال والموظفين بدولة مثل الهند وما حولها من دول ضخمة بأعداد السكان في آسيا أو بأميركا اللاتينية أو أفريقيا وعجز حكوماتها عن توفير جزء بسيط من الحماية الاجتماعية، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من انفجارات قريبة.
    وفيما يبدو الناس غارقين اليوم بهموم اللحظة الصحية وحتى المعيشية، تبدو الحكومات حول العالم أكثر اهتماما وتحسبا لمرحلة ما بعد السيطرة على الوباء وموعد الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الأصعب، التي لن تنجو منها دولة حول العالم، إلا أنّ دول الشمال المتقدمة تمتلك من القدرات والمؤسسية والحاكمية الكثير مما يمكنها بالمحصلة من التخفيف من غلواء القادم وشروره وإن كانت لن تستطيع تجنب بعض شرور هذا الواقع المستجد والكاسح، أما باقي دول العالم، في هذا الجنوب المنكوب بالفقر وهشاشة الاقتصادات والحكومات الفاشلة والفاسدة فكان الله بعون شعوبها!
    لا يمكن تحميل فيروس كورونا الذي فاجأ العالم كله مسؤولية ما آلت إليه الأمور أو ما ستؤول إليه بدول العالم الثالث من أوضاع حرجة وقاسية، فرغم شراسته وسطوته فإن أخطر ما فعله ليس ما خلفه من ضحايا ومعاناة صحية ونفسية، بل هو في تعريته لواقع معظم دول العالم الثالث بفسادها وفشلها ببناء دول واقتصادات حقيقية، وبكشفه لفساد وهشاشة النظام العالمي القائم على الرأسمالية المتوحشة ومركزها الغرب، والذي باتت دوله الغنية اليوم تنغلق على نفسها لمعالجة أوضاعها الخاصة تاركة دول الجنوب التي امتصت خيراتها طويلا منذ مرحلة الاستعمار وحتى اليوم لمصيرها وجوعها واستفحال أزمات شعوبها.
    هل ترتقي دول الجنوب اليوم لحجم التحدي المصيري الذي يواجهها؛ حكومات وشعوبا؟! أم سيبقى رهان الحكومات على قديمها في سياسة دولها وشعوبها بالعصا وبالمزيد من الفساد والفشل الإداري والتنموي والاقتصادي وبالمزيد من الارتباط بمركز الرأسمالية؟ وهل يمكن أن ينجح ذلك بمرحلة ما بعد كورونا الذي عصف باستقرار الجميع؟
    الخيار البديل لن يكون سهلا ولا معبدا بالزهور فالرأسمالية المتوحشة، والطبقات المستفيدة من الارتباط بها، ستقاتل للحفاظ على سيادتها وسطوتها ومصالحها، لكن لا مناص لمن يريد أن يتجنب الأسوأ القادم من الحاكمية الرشيدة والشفافية ومحاربة الفساد بلا هوادة، وتفعيل أدواته التنموية المحلية وعلى رأسها القطاع الزراعي والعودة لسياسة الدعم والحماية لإنتاجه الصناعي والاستثمار المحلي والتصدي بمسؤولية لثقافة الاستهلاك المستنزفة للمقدرات.





    [18-05-2020 02:44 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع