الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    كلام عن حظر التجول

    برغم كل ما يجري في الأردن، نحمد الله على كل شيء، فلم نعشْ حصار غزة لأكثر من عشر سنوات، ولا حروب العراق، ولا الفوضى الدموية في سورية.

    حظر التجول ينهك الأعصاب، لكنها فرصة كي نستذكر كثيرا من النعم التي كنا نراها عادية، وأقل من عادية، فخروجك من البيت، كل يوم، والعبوس يرتسم على وجهك، وسيجارتك بيدك، وكأس القهوة معك، وحِلك وترحالك، وسفرك إلى حيث شئت، وزيارتك لوالدك ووالدتك، كلها باتت مجرد أحلام مؤجلة، فأنت معزول في غرفة داخل بيت أو شقة.

    تستذكر في هذا الظرف أولئك الذين عاشوا سنوات طويلة في ظل العزل الإجباري في غزة، لا طعام، ولا ماء، ولا كهرباء، فوق قصف الصواريخ، تستذكر الأشقاء في العراق وسورية، وهم قيد الذبح والتهجير، والجوع والأمراض، منذ سنوات طويلة، تستذكر أهل اليمن وليبيا ولبنان، وكل شعب ابتلي بظروف أصعب منا بكثير، فتحمد الله على حالك، وتأسف على أنك لم تفهم ما كانوا فيه بشكل صحيح.

    ربما لم نعتدْ على ظروف صعبة، إلا في محطات قليلة، لكنها محطة مناسبة اليوم، من أجل مراجعة طريقتنا في الحياة، فلا يعقل أن نخرج من هذه القصة، كما كنا سابقا، إلا إذا كانت طبيعة النفس الإنسانية ستبقى غالبة، ولن نتعلم، ونعود إلى سلبيتنا.

    مشاهد الوقوف على طوابير الخبز، ومحال الخضار والفواكه، والمواد التموينية، على نقدها، لكنها لا تلغي الصورة الأخرى، فنحن لم نعتد على الأزمات، ولا نحتمل كلفتها، حتى برغم متابعتنا لشعوب عربية عاشت ظروف مأساوية وبقينا نؤازرهم من بعيد، ونبيعهم الدروس والحكم والشعارات، ونطالبهم بالصمود، فإذ بنا لا نحتمل مجرد حظر تجول، ونهلع على أنفسنا وبيوتنا، بما يثبت أن الطبيعة الإنسانية ضعيفة، وهشة، في كل مكان في هذه الدنيا.

    ماذا نقول عن أولئك الذين تسجنهم إسرائيل منذ عشرات السنين، ماذا نقول عن أولئك الذين عليهم أحكام بالسجن لأي سبب كان لمدد طويلة أو قصيرة، ماذا نقول عن أولئك الذين عليهم إقامات جبرية في دول كثيرة، بما فيها الأردن؟!.

    إنها الحرية، التي لا نكتشف قيمتها إلا عند زوالها، أو تقييدها، واليوم الأول لمنع التجول يمر ثقيلا صعبا، برغم أنك في بيتك وبين أهلك، وكل شيء متوفر عندك، فتعرف أن لا شيء في الحياة أغلى من الحرية، حرية حركتك، وحرية حياتك، وقد تكون هذه أول تجربة لنا، بشكل جماعي، تثبت أن الحرية أغلى من كل شيء، مثلما تثبت أن لا قدرة لدينا، لاحتمال أي ظرف صعب، مثل الحروب والفوضى الداخلية.

    حظر التجول مكلف نفسيا، مثلما هو مكلف اقتصاديا، فالكل ينتظر نهاية حظر التجول، الذي له شيك آخر لا يعرف ماذا يفعل به، والذي عليه شيك لا يعرف من أين يتدبر ماله، وقد توقف عمله، والذي لديه محل تجاري مغلق يضرب أخماسا لأسداس، والذي يريد حقا ماليا من أحد لا يعرف كيف يحصل عليه، والمؤجر يهلوس بمال عقاره لدى المستأجرين، والمستأجر متضرر ولا مال لديه، والعامل بشكل يومي تعطل وتضرر، والمغترب المحشور هنا، خائف من غيابه وخسارة وظيفته، والطالب الأردني في الخارج، لا يستطيع والده أن يرسل مصروفه، والعائلة الأردنية التي تعيش من مصدر مالي في الخارج، لن تستلم حوالتها، والآثار الجانبية لهذا الوباء لا يمكن إنكارها، ولا التخفيف منها، لكنها حالة نرجو الله أن تكون مؤقتة وأن نخرج منها بأقل الكلف والخسائر، وأن نسترد حياتنا كما كانت.

    ما يخفف الأمر أن الحالة ليست أردنية فقط، فعشرات الدول والشعوب تمر بنفس الظرف، وربما أسوأ بكثير، كما أن افتراض كثيرين أن بإمكانهم بعد زوال هذه الغمة، ملاحقة بعضهم البعض بشأن الحقوق، بذات الطريقة القديمة، افتراض بائس، لأن الضرر الاقتصادي وصل إلى الجميع، وهذا يفرض فعليا أن تسود موجة من الصبر والتراحم والعفو، بين الناس، إضافة إلى حاجة الحكومة لإعادة النظر بتفاصيل كثيرة، حتى لا يجد المجتمع نفسه أمام أزمة أكبر بعد زوال الوباء، أزمة الحقوق، والعمالة، ولا بد من قوة فاصلة تفصل بين كل هؤلاء، عبر تعليمات تستند إلى قانون الدفاع، وإلا وجدنا أنفسنا أمام وباء آخر، يأكل الناس فيه بعضهم بعضا، ولا يرحمون بعضهم البعض.

    مر يوم، وأمامنا فترة أطول، قد تقصر إذا تصرفنا بشكل صحيح، وإلا سنكون أمام حظر طويل، وهذه مهمة كل واحد فينا، أن ينهي هذا المشهد بأقل الكُلف.





    [22-03-2020 08:34 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع