الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    صناعة الرأي العام

    أحداث اليوم - م. محمد مرشد حماد - لا يكاد يخلو مقال أو إحصائية من كلمة الرأي العام فقد صارت مصطلحاً يُستخدم لإثبات صواب قول ما وسلاحاً يهدد به بعض الساسة أو المؤسسات ويستعينون به لشرعنة قانون أو توجه جديد وحتى لأجل إجراء تصحيح يجدون فيه علاجاً لبعض المستجدات التي طرأت على المجتمعات والدول.

    الرأي العام له مرجعياته وأسسه التي تتخذ منها الجماعات والشعوب ميزاناً لقبول أو رفض ما يطرأ وقد تكون هذه المرجعيات شرائع سماوية أو دساتير , وأحيانا تكون ثقتها بالفرد كالسياسي أو رجل الدين أو أصحاب الإختصاص كالأطباء والمهندسين والعلماء فيكون رأي هؤلاء الفيصل في صناعة الرأي العام.

    الفرد فطريا يُكّون رأيه الخاص ؛ لكن رأيه يخضع للتغيير والتعديل عند تواصله مع الجماعات فُيطرح رأيه للمقارنة مع حجج وبراهين وإعتبارات يُؤمن بها الآخرون , وبعد هذا التواصل إما أن يزداد تمسكه برأيه فتتعزز ثقته بالتوافق الجمعي أو يتخذ موقفاً جديدا تحت تأثير التفكير الجمعي , الذي ربما يُلغي التفكير الفردي خوفاً من عواقب الشذوذ والعزلة وتحمل تبعات معارضته وأحياناً قد يمتلك الفرد الكاريزما والأدوات التأثيرية الكفيلة بفرض رأيه على الاخرين.

    وللحديث عن مجتمعاتنا العربية فلقد لعبت سيادة القبيلة والعرف قبل الإسلام دوراً بارزاً في صناعة الرأي العام داخل الجزيرة العربية , وهذا ينطبق على الممالك العربية التي خرجت من رحم القبيلة و سادت على حدود الإمبراطوريات المهيمنة آنذاك , ولما ظهر الإسلام كان خطابه موجهاً للفرد والجماعات على حد سواء فحدد واجبات الفرد وحقوقه كما حدد هوية المجتمع المسلم بين نظرائه من المجتمعات أي أوجد للفرد ضوابط سلوكية وتفاعلية مع محيطه وبيئته ووهبه قدرة التأثير لا التأثر و رسّخ إعتزازه بسمو هويته المنسجمة مع الفطرة السوية.

    إبان النهضة الأوربية ظهرت علوم جديدة تعمل على صنع رأي الفرد وتوجيهه لخدمة أفكار وتوجهات تخدم برنامج حزبي لقيادة الدولة فأصبح الرأي الجمعي الإحصائي أكثر أهمية من رأي النخبة الإنتقائي , وإنحسر صراع النخب بالقدرة على إقناع العامة وحشدها , وهنا بدأت صناعة الرأي العام تتخذ أساليب الخداع وتسخير كل ما هو مقدس كالدين بل وصلت حد إستغلال حاجات العامة الإقتصادية والتلاعب بالمتطلبات الروحية و الجسدية لصناعة الرأي العام.

    تطور وسائل الإعلام بمختلف أنواعها بداية من الصحف فالمذياع فالسينما فالتلفاز فالإنترنت سُخّر لصناعة الرأي العام و عُزز هذا التطور بميزانيات ضخمة إستثمرت فيها وشجعتها مؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة لتمتلك قوة ناعمة , فعملت على أدلجة صناعة الإعلام كي تخدم مشروعها الداخلي المتمثل بصراع النخب على كسب الجمع الإحصائي وتحويل العامة لمجتمع النزعة الاستهلاكية المفرطة الواثق بتفوق دولتهم ومنعتها , وبالتزامن خدمت مشروعها الخارجي الساعي للسيطرة على العالم فكرياً وإقتصادياً وفتحت الأفق لعلماء الإجتماع ومراكز الدراسات الغربية كي تمتهن صناعة الرأي العام الموجه , مثبتةً أنه أقل تكلفة من قوة الأساطيل والقنابل والصواريخ كما أن إتقانه يحقق إستراتجيات بعيدة المدى بوصفه إستثماراً مضمون الربح وقليل الخسارة.

    فصناعة الرأي العام وتسخيره تتطور مع تطور التواصل بين البشر التي تخلق وحدة أفكار وإهتمامات ؛ فالدول صارت تتنافس على كسب تأييد جماهير ومستهلكين خارج جغرافيتها والذي بدأ بمفهومه الحديث بين الطبقات الإجتماعية وصولاً للنازية والرأسمالية والإشتراكية , وحديثاً عاد بشكل شرس بين الشعوبية اليمينية و اليسار الوسطي بينما إنكفأ في إقليمنا نحو القطرية مدعومةً بالعلمانية الراديكالية التي وجدت بالقطرية سلاحاً لمواجهة الإسلام السياسي , أما التأثير الدولي على صناعة الرأي في الإقليم فكان أكثر خطورةً بتأجيج الخلاف العقائدي السني الشيعي تارةً وتارةً تضع القومية العربية في مواجهة الأتراك و الأكراد و الفرس والعكس صحيح.
     
    مؤسسات صنع القرار الكلاسيكية التي سخّرت الدعاية وعلم النفس الجماهيري للسيطرة على ثروات الدول بما فيها الأفراد , و إتبعت أسلوباً أكثر خطورةً مستغلةً تطور وسائل التواصل الإجتماعي فصارت تسعى للسيطرة على عقل الفرد بمعزل عن التفكير الجمعي الحقيقي بل بتفكير جمعي مختلق ومفتعل يُروج للتمرد على العرف و الدين و القوانين.

    مهما تطورت مفاهيم الفرد ومستوى تعليمه فلن ينجح منفرداً أن يواجه مراكز أبحاث وأجهزة إستخبارات ضخمة دون مساعدة المؤسسات التربوية والإعلامية الوطنية القادرة على خلق فضاء يُروج للأفكار النافعة التي تنتمي لحضارتنا وتُعزز هويتنا , وفي خضم تراجع هذه المؤسسات التي لم يزل نوع وشكل خطابها الموجه للعامة ينتمي لمرحلة الصحيفة الورقية و المذياع, دون الإنتباه أن أجيالنا بدأت بخلع ثوب حضارتنا وأعرافنا وتبني أفكار و مفاهيم يعتقدون مخطئين أنها عنوان التحضر والتمدن و الحل الأمثل لمشاكلنا الإجتماعية والإقتصادية.

    ما تقوم به المؤسسات العربية - البريء منها - هو ركوب الموجة المجنونة لمواقع التواصل دون إضافة لمستها الخاصة التي تعزز الهوية الوطنية وتُوقف الإغتراب الفكري إن هي أوجدت منصات موثوقة تغير تعاطيها مع الأحداث بحيث تصبح المرجع لصناعة الرأي العام والسلاح لمحاربة التداول اللامسؤول للأخبار والمساهمة الجادة بتقليل الإعتماد العشوائي على مواقع التواصل في تلقي الخبر وبناء الفكر والثقافة.





    [17-02-2020 05:46 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع