الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    هيهات منا الذلة

    بقلم زياد ابحيص :

    الناظر إلى تاريخ التدافع الداخلي في تاريخ العرب، يجد هذا التاريخ بين نخبتين نشطتين ونخبتين خاملتين:

    أما النخبتان النشطتان فأولاها يمكن أن نسميها "نخبة الأمر الواقع"، تختار دوماً أن تقرأ ميزان القوى فتقف حيث تأخذها منافعها ومصالحها، فهي تقيم الحكم الوراثي لتئِد البحث الإسلامي المبكر عن نظام حكمٍ وتداولٍ للسلطة، ولربما نجد لها في هذا عذراً ما، فالبحث عن نظامٍ سياسي عمليةٌ مضنية وطويلة تتضمن التجربة والخطأ وسفك الدماء.

    أما حين يكون الأمر الواقع هيمنةً لمحتلٍّ خارجي، فإن هذه النخبة تتحول إلى ناطورٍ أو كلب حراسة، أو حتى حذاءٍ في القدم، بحسب درجة التصاقها بالمحتل؛ لا تملك إرادة حرة، ولا يمكن التعويل على رشدها، أو على إدراكها لذاتها وانطلاقها من مصلحتها لتحميها، فهي ترى في رضى سيدها وجودها وحياتها.

    مقابلها وقفت دوماً نخبةٌ مثالية ثائرة، تتطلع إلى إقامة الحق والحكم بالعدل، تقرأ ميزان القوى لتقلبه لا لتنحني له...

    ترى نخبة الأمر الواقع أنها "ذكية" و"فهلوية" لأنها "تفهم اللعبة" وتلعب وِفقها، وتتوهم في ذلك تفوقاً لها على النخبة الثائرة، فأنى لمن يبيع غدَ أطفاله بقوت يومه ولذة لحظته أن يبصر أن النخبة الثائرة فهِمت الللعبة ومآلاتها، فقرّرت هدمها وإقامة قواعد جديدة في مكانها...

    وبعيداً عن جدل الرواية، فلعل إحدى أكثر اللحظات تعبيراً عن الصراع بين النخبتين تجلى على لسان سبط رسول الله الحسين بن علي رضي الله عنه في خطبته يوم عاشوراء: "ألا إن الدعي بن الدعيّ قد ركز بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة"...

    ما تزال نخبة الأمر الواقع السقيمة المتخشبة تهدد النخبة الثائرة بقوتِها وعيالِها وحريتها وحياتها، فترد عليها الثانية بأنه دون الحق يهون المال والحرية والنفس والولد، فإن كان في تاريخ الإسلام من يستديم جذوته ويحمل مشعله فهي تلك النخبة الثائرة...

    أما النخبتان الخاملتان فهما متشابهتان في المبدأ مختلفتان في التطبيق: تختاران أن لا تطحنهما رحى التدافع، وأن لا تطالهما نيران المعركة فتهرب الأولى إلى الهجرة فتجد نفسها في نظامٍ جاهزٍ مبنيّ لا يطحنه التدافع، أو تحاول أن تقف بعيداً عن المعركة وتتشاغل بأعمال ومهمات ثانوية وبقوت يومها ورزق عيالها... والحركة بين النشاط والخمول مستمرة، فمن هو خامل في مرحلة قد يتصدر التدافع في مرحلةٍ تالية، والعكس كذلك.

    لقد أدى جر الخلاف السياسي المبكر إلى مساحة العقائد إلى تعليب مقولة هيهات منا الذلة باعتبارها مقولة مذهبٍ محدد، لكنها في الواقع مقولة الثوار لأجل الحق في كل وقت، وتعبيرهم الجلي عن أن الموت في سبيل الحق أهون عندهم من أن يسلموا لظلمٍ أو لظالمٍ لأن في يده فائضاً مؤقتاً من قوة.

    فهيهات منا الذلة.





    [20-10-2019 10:45 PM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع