الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    بيوت عزاء!

    قال ناظم حكمت : « أن الموتى لا يشغلون ناس القرن العشرين أكثر من سنة». فماذا لو أن الشاعر التركي الراحل اقتفى الأثر النفسي لناس القرن 21 ؟ لكان حتما قد قدر معادلا نفسيا مختلفا، في غبة ما يعيش العالم من حرب وارهاب وفوضى ودمار.
    من اخلاق اليوم، فان الناس قبل أن يدفن « الميت « المرحوم فانهم ينقضون بالكلام المباح على سيرته وذكره ومثواه الاخير. مرة كنا في بيت عزاء، ويجلس بجانبي الصديق الكابتن نبيل الدباس، وسمعنا رجلان يتهامسان بكلام ضيق وقاس على الراحل، ودون ذكر أي مناقب حسنة وصالحة تشفع له، وترحمه و تغفر له عند رب العالمين، وتقيه من عذابات ما بعد الموت.
    الرجلان سال منهما كلام طويل، ونسيا أنهما يتحدثان عن المرحوم، وأن أولاده وعائلته وأقاربه واصدقاءه موجودون في بيت العزاء، وما زالوا راضخين تحت تأثيرات صدمة الموت، ولم ينزعوا قناع الصدمة، ويتلقون العزاء من جموع الناس، وان الراحل لم تبرد عتبة قبره. ويبدو أنهما نسيا أن الشخص الذي يتحدثون عنه قد رحل، وانه في دار الاخرة «الخلود».
    حاولت لما سمعت من كلام قاس بحق الراحل الدخول على حبل الدردشة والكلام السليط ، وجلبت انتباههم الى أن الشخص الذي تتحدثون عنه، ومسكتم شليله من أول الجلسة الى آخرها هو المرحوم الذي كنا قبل ساعات نشارك في دفنه، ونستمع للقرآن وندعو له، ونترحم على حياته وموته، وندعو له بالغفران والرحمة في دار الخلود، ولكن ما هزهم كلامي خجلا.
    هو انفصام أخلاقي، ولنقل «قلقلة اخلاقية». ما يدفع الى تشويه الموتى، وعدم احترام الموت. وفي كل الاديان والعقائد البشرية السماوية والارضية « الوضعية « فان الموت مقدس، وله حرمة وقداسة وإجلال، ومنه تستخلص المواعظ والعبر والدروس ، وكل شعوب العالم تحترم وتقدر طقوس وتقاليد الموت.
    الا عند البعض في ثقافتنا المحلية العربية والاسلامية على شدة الغرابة، لربما لا شبيه لتقاليد العزاء في مجتمعاتنا، تقديم الطعام « مناسف « وتستلذ الناس في الاكل بالعزاء أكثر من الافراح والمناسبات العادية ، وتتحول بيوت العزاء الى دواوين للنميمة والكلام المسلوق والغيبة، والقال والقيل، ومجالس للبهرجة والرياء والنفاق الاجتماعي.
    اخلاق ليست لصالح الميت، ولا في سجلات وأرشيف حسابات الثواب والعقاب في دار الخلود، فهل أن استسهال الموت يفقده رمزيته وقيمته الروحية ؟ أم لأن معنى الموت في مجالنا العام وثقافتنا وفلسفتنا الوجودية تحول الى أمر عبثي ورخو وسهل، تتابع على شاشة التلفزيون يوميا مئات بل الاف من القتلى والمشردين والمنكوبين والجرحى في كوارث طبيعية وحروب وفوضى تعم بلاد العالم، وتحديدا الدول العربية.
    ولو ضيقنا الرؤية لما يصيب مجالنا العام المحيط والقريب من موت يومي : حوادث سير، ومرضى سرطان لا يجدون علاجا، وفقراء عاجزون عن الدخول الى مستشفيات، وموت رخيص بسبب اهمال وعبث ولا مبالاة طبيب، وموت عاجل لنقص في الادوية وسوء الخدمة الطبية، وحوداث انتحار تصطاد أرواحا لابرياء انسدت الحياة في وجوهم، وموت طارئ جلطات قلبية ودماغية بسبب الشعور بالظلم والقهر والاحباط لما تسمعه من ويلات ومصائب يومية تدك بوطن مجروح.
    بعض من أسباب الموت العابث واللامبالي، الرخيص والسهل. فلا أشد من العجز عندما يشعر الانسان بالهزيمة أمام ميت ! هي نسخة من أخلاق القرن الحادي والعشرين، لربما لو أن ناظم حكمت عاش في القرن الجاري لقال : ان الموتى لا يشغلون ناس القرن الحادي والعشرين بضعة ساعات «. فما زاد ولا نقص من اخلاق منقرضة، واخلاق مجمدة، وتحت التفريز في ثلاجات لمشاعر جمعوية، ووعي وجودي للموت يموت الانسان تحت ضغطها مرتين وأكثر، وهو على قيد الحياة، فما بالكم إن لحد؟





    [30-05-2019 09:02 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع