الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    صعود الصين في الشرق الأوسط وتراجع أميركا
    حسن أبو هنية - أرشيفية

    كتب: حسن أبو هنية - لم تعد طموحات الصين محدودة بحدودها الجغرافية، فهي تسعى جاهدة إلى أن تصبح القوة الاقتصادية والجيوسياسية الرائدة في العالَم عموما والشرق الأوسط خصوصا،وتبدو مؤشرات صعود الصين واضحة وجلية فهي على وشك تجاوز الولايات المتحدة من حيث الناتج المحلي الإجمالي في غضون عقدين من الزمن، وقد باتت الصين الدولة صاحبة الاقتصاد التجاري الرائد على مستوى العالَم، وهي تضخ استثمارات أجنبية في شرايين الاقتصادات في مختلف أنحاء أفريقيا وجنوب آسيا، وتحصل في المقابل على قواعد عسكرية وغير ذلك من الأصول الجيواستراتيجية من شركائها التجاريين المثقلين بالديون.

    رغم أن السياسة الصينية تبدو متحفظة وحذرة ومتأنية إلا أنها حققت مكانة عالمية تنافسية مع الولايات المتحدة الأميركية لا نظير لها، الأمر الذي خلق حالة من التوتر كصفة مميزة للعلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والصين بدءا من الحرب التجارية المتصاعدة، وصولاً إلى تصنيف إدارة ترمب للصين بصفتها "منافسًا استراتيجيًا يسعى لتقويض نفوذ الولايات المتحدة وقوتها" كما جاء في وثيقة الأمن القومي الأميركي التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 18ديسمبر 2017،لكن التنافس على النفوذ بين أقوى جيشين واقتصادين في العالم حسب "ناشونال إنتريست"ليس مرتبطًا بالجغرافيا فقط. إذ تشير الصين إلى نيتها تشكيل المشهد الإقليمي والعسكري في الشرق الأوسط عبر علاقاتها التجارية مع دول إقليمية، وعبر استعراضها لقوتها العسكرية.

    لخص ترمب استراتيجيته للأمن القومي قائلا: "نحن أمام أهم ثلاثة مخاطر، جهود الصين وروسيا، والدول المارقة، إيران وكوريا الشمالية، والتنظيمات الإرهابية الدولية، الساعية للقيام بأعمال قتالية نشطة ضد الولايات المتحدة"، لكن وثيقة "استراتيجية الدفاع الوطني" للولايات المتحدة، التي أصدرها وزير الدفاع الأميركي السابق جيم ماتيس في يناير 2018، تبدأ بجملة موجزة لا تزال آثارها على السياسة الأميركية عميقة. إذ تشدّد على أن "المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيسي للأمن القومي للولايات المتحدة"،ولم تفسّر "استراتيجية الدفاع الوطني"حسب مايكل سينغ في مقالته "الصين في الشرق الأوسط: على خطى الولايات المتحدة؟"المعنى الدقيق لهذا التحول بالنسبة إلى سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهو الأمر بالنسبة لـ "استراتيجية الأمن القومي" الأكثر تركيزاً التي أصدرها البيت الأبيض. فللوهلة الأولى، يبدو أن المحور ينطوي على تركيز متضائل على منطقة الشرق الأوسط.

    يعكس قرار الرئيس الأميركي ترمب االانسحاب من سوريا وأفغانستان السياسة الانعزالية الأميركية ويرسخ مبدأ "أميركا أولا"، لكنه لا يخرج عن جملة التحولات المتعلقة بتصورات الأمن القومي الأميركي التي وضعت إبان حقبة الرئيس السابق باراك أوباما، مع بروز منظور استراتيجي جديد يقوم على مبدأ"إعادة التوازن الاستراتيجي" بالتحول نحو آسيا ــ المحيط الهادي، والتي استندت إلى إعادة النظر في تحديد الأولويات الأميركية بنقل الثقل الاستراتيجي نحو المناطق الأكثر تنافسا ومحاصرة القوة الأكثر نموا في العالم ممثلة بالصين، ووضع صراعات الشرق الأوسط في مرتبة متأخرة.

    تشدد الولايات المتحدة على أنها لن تنسحب بصورة مطلقة من الشرق الأوسط وتتركه للصين، وهي وضعية تشيرإلى أن الولايات المتحدة والصين أصبحتا مسبقاً، أو ستصبحان متنافستين استراتيجيين في الشرق الأوسط بشكل حتمي حسب جون سالابريس في مقاله "دور الصين في الشرق الأوسط بعد الهيمنة الأميركية"، فبكين تتوافر على طائفة واسعة من المصالح في الشرق الأوسط. وفي مقدمة هذه المصالح الوصول المستمر إلى موارد الطاقة في المنطقة. كما تضم مصالح الصين التجارية أيضاً توليد فرص استثمار جديدة، وتحصيل عقود مشاريع بنية تحتية للشركات الصينية، بالإضافة إلى كسب حصة في السوق لمنتجاتها. وتكمن المصلحة الرئيسية الثانية للصين في الشرق الأوسط في إقامة علاقات وبناء نفوذ لدى القوى الإقليمية، بعيداً عن حدود جوارها الآسيوي-الباسفيكي المباشر. وتحتل كل من السعودية وإيران ومصر مكانة مرموقة في حسابات بكين. كما تبقى المنطقة ككل مهمة بسبب موارد الطاقة الوفيرة التي تضمها، ولوقوعها عند نقاط تقاطع جيو-استراتيجية، ودورها المحتمل في إعادة توازن الاقتصاد الصيني في اتجاه الغرب، وثمة مصلحة ثالثة هي الحفاظ على الأمن المحلي عبر منع الأيديولوجيات المتطرفة والشبكات الجهادية المتجذرة في المنطقة من التسلل إلى داخل الصين. ورابعاً، للصين مصلحة عامة في الشرق الأوسط، كما في مناطق أخرى، كمسرح لنيل الاعتراف بها كقوة كبرى.

    ثمة تحولات في مقاربة الصين تجاه الشرق الأوسط بعد الربيع العربي عام 2011، حيث وجدت الصين نفسها معزولة عن المنطقة من حيث الاقتصاد، وهي تسعى إلى لعب دور ريادي أكبر، فقد أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة "الحزام والطريق" وتسمى أيضا "طريق الحرير" عام 2013، وانخرط فيها إلى اليوم أكثر من 100 بلد ومنظمة دولية وإقليمية، وتهدف المبادرة إلى دعم الاستثمارات والشراكة والتعاون في مختلف المجالات بين الشرق والغرب، في إطار مقاربة تقوم على تبادل المصالح المشتركة، فحتى وقت قريب نسبياً حسب جون سالابريس لم تشعر الصين بأن للصراعات الجارية في المنطقة تأثيرا مباشرا على مصالحها. ومع ذلك، فإن اعتماد الصين الكثيف على طاقة الشرق الأوسط، وعلى طاقة الخليج بشكل خاص، جعلها هشة بشكل حاد أمام حالات التوقف المحتملة للإمداد، وارتفاع الأسعار بسبب الصراعات في المنطقة. وعلى الرغم من التقدم في تنويع مصادر إمداده من الوقود، فإن الاقتصاد الصيني يظل معتمداً بشكل كبير على النفط الشرق أوسطي، ويكون بذلك مكشوفاً أمام السياسات المتفجرة.

    منحت سياسات ترمب الانعزالية والحمائية الصين هدية ثمينة كي تلعب دورا أكبر عالميا، ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال هي القوة العظمى الرائدة على مستوى العالَم؛ فقد برزت الصين بوصفها قوة جيوسياسية جديدة وقديمة، حسب وزير الخارجية الألمانية السابق يوشكا فيشر في مقاله "هدية ترمب للصين"، فالصين -التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة وتتمتع بسوق محلية ضخمة- تتحدى فعلا الولايات المتحدة، بوصفها زعيمة العالَم اقتصاديا وسياسيا وتكنولوجياً.وكل من زار أروقة السلطة في بكين يعلم أن قادة الصين لديهم خريطة خاصة للعالَم. وعلى هذه الخريطة تقع الصين -المسماة "المملكة الوسطى"- في المركز، في حين تنسحب أوروبا إلى الجانب الأيسر والولايات المتحدة إلى الجانب الأيمنـ فعندما تنظر الولايات المتحدة غربا عبر المحيط الهادئ، وتنظر أوروبا شرقا نحو أوراسيا؛ فإن الفائز الوحيد هو الصين، والخطر الاستراتيجي الحقيقي في عهد ترمب إذن ليس تغير النظام العالمي فحسب؛ بل الخطر الحقيقي يكمن في أن سياسات ترمب تضمّن "جعل الصين عظيمة مرة أخرى".

    لقد أصبح مصير الصين -وكذلك دورها في العالَم- بين أيدي الصينيين وقادتهم حسب كبير خبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي سابقا كينيث روجوف في مقاله"لماذا لا يستطيع ترمب التنمر على الصين؟"،فإذا كانت إدارة ترمب تتصور أنها قادرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بشن حرب تجارية مع الصين، فمن المحتمل أن يُفضي أمر كهذا إلى التعجيل بتطور الصين بقدر ما قد يؤدي إلى إبطائه، وإذا حاولت إدارة ترمب تجربة تكتيكات فظة مع الصين، فإنها بهذا تضع نفسها أمام مفاجأة من العيار الثقيل، فالصين تمتلك أسلحة مالية، بما في ذلك تريليونات الدولارات من الديون الأميركية، وقد يُفضي تعطيل التجارة مع الصين إلى زيادات هائلة في الأسعار بالمتاجر المنخفضة التكلفة (مثل "وال مارت" و"تارغت") التي يعتمد عليها العديد من الأميركيين.

    خلاصة القول إن الصين، وعلى ضوء المنافسة الدولية الكبرى، تسعى للتمدد في المنطقة مستفيدة من التراجع الغربي ومن احتياجات دول المنطقة، ومتجاوزة السياسات المحدودة التي طبقتها في السابق إلى سياسة شاملة، وثمة علامات بارزة على كل من التغييرات في مشاركة بكين في الشرق الأوسط في ظل إدارة شي جين بينغ واستمراريتها حسب مجلة "فارنام ستريت"،فمن الواضح أن مصالح بكين ورهاناتها في الشرق الأوسط قد تم تعزيزها بشكل كبير منذ عام 2013 عندما توقفت منطقة الشرق الأوسط عن كونها مصلحة هامشية. ومع ارتفاع حجم التجارة في الصين، والاستثمار الكبير في المنطقة، والدبلوماسية الاستباقية كوسيط للسلام، وتوسيع التفاعلات العسكرية، فضلا عن تركيز بكين الحريص على قوتها الناعمة، أصبحت الصين بلا شك لاعبا أكثر وضوحا في المنطقة. ومع ذلك، فإن هذا الوجود المرتفع يعكس وضع البلاد كقوة عظمى جديدة ذات وعي ذاتي أصبحت أكثر حزما وثقة على الساحة الدولية. وبينما تدخل الصين بشكل أكبر في التعاون العملي مع دول الشرق الأوسط على طول مسار الحزام والطريق وتعيد بكين النظر في سياستها الخارجية بما يتماشى مع وضعها كقوة عظمى جديدة، فمن المرجح أن يتعمق تدخل بكين في المنطقة في السنوات القادمة.





    [07-01-2019 08:27 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع