الرئيسية مقالات واراء

شارك من خلال الواتس اب
    صورهم ..

    تلاحقنا مثل ذنب اقترفناه، بنظرات كانت لا تتطلع دائما على العدسة حتى لا نشعر بأنها تراقبنا من بعيد. ومع ذلك ثمة شعور بالعجز ينتابنا ونحن ننظر إلى تلك العيون التي غابت الآن.
    صورهم مادة غير مكتملة وليست صالحة للنشر والشرح والاستنتاج. وكأنهم لم يحسبوا حساب تلك اللحظة المهمة من حياتنا، حين هم يموتون.
    العسكر لا يعرفون كيف يلتقطون الصور لأنفسهم، هذه حقيقة لا جدال فيها!
    حتى أننا لم نر "سيلفي" واحدا تقريبا لأي منهم، في سباق جمع صورهم من أي مصدر متاح لتكون صالحة للتداول بعد ارتقاء أرواحهم الطاهرة إلى السماء.
    كل الصور مسروقة من بعيد في غير وضوح مقصود لإظهار الملامح والمشاعر أثناء إلقاء القبض على اللحظة، والتقاطها. حتى إنك لتشعر أنهم يخجلون من ظهورهم في كوادر جامدة تؤرخ لمناسبة أو زيارة أو حتى ليوم عادي الملامح، كان قد مر عليهم مثل خلق الله.
    يحسب الشهداء حساب كل شيء غالبا، قبل أن يعودوا عادة إلى معسكراتهم؛ يقبلون أيادي أمهاتهم الجالسات على كراسي الصلاة بحرارة ويقسمون أنهم لم ينسوا وضع المصحف في جيب الحقيبة، يرجعون من الباب مرتين وثلاثا ليحضنوا صغارهم النائمين بأمان على نفس أسرتهم بدل الفرشات القصيرة، يملؤون أعينهم من تفاصيل البيوت الصغيرة جيدا عاقدين العزم على طلاء الجدران وتبديل مكابس الكهرباء في المرة المقبلة، يلفون بقايا طعام الدار المحضر خصيصا لهم ليحملوه إلى زملائهم المشتاقين لأكلات موسمية، يلثمون جبين آبائهم الذين يدعون النوم أثناء خروجهم من البيت ويدعون لهم بصمت، يبتسمون في وجوه زوجاتهم وعرائسهم المغتاظات من العطلة السريعة وضياعها في المهمات الاجتماعية، ثم يغلقون الأبواب بروية حتى لا يصحو الصغار.
    يحسبون حساب كل شيء حتى القصص الحزينة والحسرات على تفاصيل حكاياتهم، التي وللصدفة لا تحدث إلا أثناء اللقاءات التي لم يعتقدوا للحظة أنها الأخيرة. يخلفون وراءهم مادة تصلح لإيلام الناس وإشباع رغباتهم الشديدة في الحزن أكثر.
    إلا الصور، يتناسى الشهداء كم هي مهمة وأساسية ليكتمل المشهد والتقرير والمقال والتعليق، ليحقق رقما تصاعديا في النشر و"اللايكات" والقراءة والتحليل. ينسون كيف يتركون آثارا خلفهم تتيح للمتابعين عن بعد، صناعة أجواء الشهادة!
    بالطبع لشهدائنا صور ومقاطع مسجلة خاصة لا ينفع أن يتم تداولها، لما تحمله من خصوصية نبيلة تبقى في حاضنة الذكريات المحفوظة لدى محبيهم وأقربائهم. إنما الباقي فهي محض صدفة مسروقة من هنا أو هناك.
    كا حريا بنا أن نرسم صورهم خيالات ملونة بأجنحة تصعد إلى سماء زرقاء، نرسمهم متشابهين متقاربين في الأعمار، يبتسمون لنا من عليائهم آمنين مطمئنين، يحلقون فوق الوطن بسرعة الرياح، ويبعثون قبلاتهم للباكيات والحزانى على فراقهم.
    كان حريا بنا أن نترك بحثنا الحثيث وراء صورهم خلف الطاولات أو على نواصي الطرق وتحت الشجر، ونطلق الخيال لأرواحهم تعانق السحب بارتياح وتطمئن على وطنهم أنه بخير، وتطبطب بضحكاتها البيضاء على جروح الأيتام السمر ومآقي العجائز والحبيبات. وحين تصادف في طريقها إلى الصعود سارية العلم، تقف بثبات وتحييه تحية العسكر.





    [14-08-2018 10:14 AM]
التعليقات حالياً متوقفة من الموقع